كيف غادر المسلمون الحضارة.
د. طارق بن زياد أبو غزالة
لو أنك سألت مفكراً من المفكرين الغربيين من قائل العبارة التالية:"لا يمكنك أن تقف في نفس النهر مرتين"؟ فستكون الإجابة "هرقليطس"ولو سألته ماهي الفكرة الرئيسة لمؤلفات كل من أفلاطون وأرسطو وشكسبير ولوك ووليم جيمس وهيغل وماركس.... فسيكون الجواب موحداً نوعاً ما.
إن هذه الوحدة النوعية في الإجابة تدل على أن هناك نظاماً فكرياً يحكم العالم الغربي وخاصةً الدوائر الفكرية العليا التي ترسم للمجتمع سياساته عموماً.
إنّ مشكلة العالم الإسلامي ذات شقين:
أولاً: نحن المسلمين لدينا فكرة قد تكون غير صحيحة عن مفكري الغرب وكثيرٌ من الدراسات الإسلامية الفكرية تعتبر نظرية المؤامرة ركناً أساسياً في صياغة خطابها للناس. فكارل ماركس مثلاً متآمرٌ على الإسلام فهو جزء من نظرية المؤامرة والتي تتضمن فرويد ودارون . وكثيراً ماتقدم أفكار ماركس على أنها مرتبطة بأ فكار فرويد ودارون رغم أن ماركس كان متأثراً على حدٍ كبير بنظرية هيغل التي تتحدث عن تقدم التاريخ والتي استعملها ماركس للتنبؤ بنهاية التاريخ بوصف أن الشيوعية هي أهم وآخر مراحله.
وعلى مستوى آخر يوصف كثيرٌ من مفكري عصر النهضة الأوروبية بأنهم ضد الدين رغم أن كتاباتهم كانت بالأساس موجهة ضد سلطة الكنيسة في القرون الوسطى.
هؤلاء المفكِّرين يُعتبرون في الوعي الإسلامي جزءاً من نظرية المؤامرة لتحطيم الدين أو للقضاء على عبادة الإله .
ولكي يكون المرء منصفاً يجب التبيين أن كثيراً من هذه الكتابات الغربية لم تكن ضد الله بقدر ما كانت ضد سلطة الكنيسة على العقل والتي كانت تنتشر في طول أوروبا وعرضها.
ثانيا: نحن المسلمين لدينا فكرة مبهمة عن تراثنا بسبب الفهم الغامض عن كيفية تشكُّل هذا التراث.
إنَّ إحدى أهم مفاصل تشكل هذا التراث كانت في حركة الترجمة التي جرت خلال الدولة العباسية خلال حكم الخليفة المأمون. هذه الحركة حدثت بسبب احتكاك المسلمين بمؤلفات اليونان وترجمتها. كثير من علماء المسلمين اليوم يعتبرون حركة الترجمة هذه بدايه للانحدار الإسلامي وكثيراً مايستشهدون بكتابات أبي حامد الغزالي الكلاسيكية كالمنقذ من الضلال وتهافت الفلاسفة. وكثير منهم لايستطيعون تحمل ابن رشد لا لشيء إلا لأنَّه ردَّ على تهافت الفلاسفة بكتاب تهافت التهافت.
وبغض النظر عمن هو على صواب أو على خطأ فإن هذا الاحتكاك بين المسلمين واليونان لم يكن بالامكان تجنبه لإن الإسلام يأمر المسلمين بشكل لالبس فيه بالسير في الأرض والسفر بغية التعارف مع الشعوب والقبائل الأخرى لهذا فإن المسلمين كانو سيحتكـّون باليونان عاجلاً أو آجلاً. وهذا الاحتكاك حدث عندما تواجه المسلمون مع الإمبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية.
هذه الإمبراطورية كانت قد ورثت الإمبراطورية الرومانية الغربية والتي كانت قد ورثت بدورها أعمال اليونان.
خلال تلك الفترة كان العرب منهمكين في ترجمة أعمال اليونان والفرس والهنود. لم يترجم العرب تلك الأعمال فحسب بل أضافوا إليها. هذه الإضافات جاءت في شكل طريقة جديدة للوصول إلى الحقيقة.
لقد اخترع العرب الطريقة التجريبية والطريقة التثبتية؛ الأولى ضرورية للعلوم العلمية والثانية ضرورية للعلوم الشرعية في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في القرون الوسطى وكان هناك سجال فكري يتحدث عن مدينة الله ومدينة الإنسان .
كان المسلمون يعيشون في مدينة واحدة لا فرق بين الدين والحياة! وبدون هذه العلوم التي نقلها المسلمون وأضافوا إليها لكان العلم قد توقف ولاحتاجت الإنسانية إلى ألف سنة أخرى حتى تستيقظ. بالإضافة إلى اختراع هذه الطرق العلمية أضاف المسلمون بـُعداً جديدا للعلم وهو البعد الأخلاقي .
في مقدمه كتابه "المناظر" يصف المهندس البصري أبو علي الحسن بن الهيثم الطريقة العلمية
فيقول:
وقد كنا ألفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثير من مقاييسها طرقاً إقناعية فلما توجهت لنا البراهين المحققة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب.
فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.
….وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة.
وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث وإذا حقق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.
ولما كان ذلك كذلك وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة وكيفية الإبصار غير متيقنة رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان ونخلص العناية به ونتأمله ونوقع الجد في البحث عن حقيقته ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات ونميز خواص الجزئيات ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج
ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات.
وما نحن مع جميع ذلك برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.
إن ما يأخذ بالألباب أنَّ هذا العالم الجليل التزم التزاماً كاملاً بهذا المنهج في أعماله كما ألزم به نفسه في مقدمة كتابه.
يقول إبن أبي أصيبعة عن ابن الهيثم في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء:
"أقول ونقلت من خط ابن الهيثم في مقالة له فيما صنعه وصنفه من علوم الأوائل إلى آخر سنة سبع عشرة وأربعمائة لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، الواقع في شهور سنة ثلاث وستين الهلالية من عمره ما هذا نصه، قال إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتاباً في اعتقادات هذه الناس المختلفة وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي، فكنت متشككاً في جميعه، موقناً بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية، انقطعت إلى طلب معدن الحق، وجهت رغبتي وحدسي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون، وتنقشع غيابات المتشكك المفتون، وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى اللَّه جل ثناؤه، المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه، فكنت كما قال جالينوس في المقالة السابعة من كتابه في حيلة البرء يخاطب تلميذه لست أعلم كيف تهيأ لي، منذ صباي، إن شئت قلت باتفاق عجيب، وإن شئت قلت بإلهام من اللَّه، وإن شئت قلت بالجنون، أو كيف شئت أن تنسب ذلك، أني ازدريت عوام الناس واستخففت بهم، ولم التفت إليهم، واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا أشياء أجود ولا أشد قربة إلى اللَّه من هذين الأمرين،
قال محمد ابن الحسن فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات، وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجاً، ولا إلي الرأي اليقيني مسلكاً مجدداً، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية، وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات، التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها…."
لم يكن ابن الهيثم العالم المسلم الوحيد الذي أُعجب بعلوم اليونان ولكن كان واحداً من كثيرين منهم ابن رشد وابن سينا و الفارابي والكندي والخوارزمي وجابر بن حيان وغيرهم آخرين.
والأن لنأخذ خطوة إلى الوراء ولننظر إلى الصورة الكلية:
ولفهم تلك الصورة الكلية لابد من فهم الوضع العالمي لذلك الزمان لكي نفهم تأثير الإسلام على ذلك الوضع.
كان اليونانيون قد بدأوا شيئا من التفكير العلمي لمواجهه التفكير الأساطيري الذي كان سائداً في زمنهم حوالي ألف سنه قبل ولادة المسيح عليه السلام.
وورث الرومان طريقه التفكير هذه ولكن ومع تنصر الدولة الرومانية حدث صراع شديد بين النصرانية والفلسفة اليونانية كانت نتيجة هذا الصراع مدمرة للامبراطورية الرومانية.
في بدايه هذا الصراع انتصرت النصرانية عندما تنصر الإمبراطور الوثني قسطنطين في القرن الرابع الميلادي ثم أصبحت أوروبا كلها نصرانية في وقت قصير بعد ذلك.
وبحلول عام 410 م تعرضت روما لأولى غزوات البرابرة الذي أتو من منغولية وسيطروا على أوربا كلها وأعادوها إلى قرون الظلام خلال قرن من الزمان.
في ذلك الزمان نفذت النقود كوسيلة للتبادل التجاري وعاد الناس إلى تبادل البضائع . ساد الإقطاع نواحي الحياة. تهاوت المعرفه لعدم وجود وقت للقراءة وأصبح الناس جاهلين بماوراء جدران بيوتهم. توقفت الفنون والفلسفة والحوارات.
لم يعد هناك وجود لحكومة وظيفية فعالة. حكم القوي الضعيف وتجهـّز الأمل للرحيل عن الإنسان لأن الإنسان نسي الأمل.
في تلك الأحوال الحالكة وفي عام 570 للميلاد ولد الرسول الكريم محمّد علية الصلاة والسلام وفي عام 610 للميلاد أرسل الله محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام للإنسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور. وأنزل الله عليه القرآن وفي فترة وجيزة تقدم المسلمون في مجالات العلوم وطوروا طرائق جديدة للتفكير اعتماداً على هدي القرآن والسنة.
وبحلول عام 900 م كان للمسلمين قصب السبق في كافة ميادين العلوم.
ترجم المسلمون خلال ذلك أعمال اليونان إلى العربية ثم نقلوها و أضافوا عليها و حذفوا منها . ومن ثَمَّ تلقت أوربا هذا النتاج و نبت عليه نهضتها فيما بعد.
بدأ انحدار المسلمين في القرن الخامس عشر الميلادي رغم أن فتح القسطنطينية على يد محمّد الفاتح حدث في نفس القرن عام 1453 م.
حدث هذا الانحدار رغم أن المسلمين كانوا لا يزالون يملكون بعض زمام القوة ولكن طريقة تفكيرهم تدهورت ولم يعد هناك تفكير حر أو أفكارٌ خلاقة تدفع بالمجتمع إلى الأمام. ووصل الاجتهاد إلى أدنى مستوياته رغم أنه لم ينقطع.
وعزف المسلمون عن تطوير صناعة البارود خوفاً من تأثيرها المدمر على عدوهم " الإنسان".
واعتقدوا أن الرحمة للعالمين تتناقض مع إعداد العدة و امتلاك أحدث العدد العسكرية و هذا ما هيأ الأجواء لفقدان القوة المنظم و الذي تظاهر بانعدام الجاهزية العسكرية لمواجهة القوة الغربية التي كانت بدأت بالبزوغ على الأفق.
بهذا ابتدأ المسلمون خروجهم من التاريخ . و كما يقول جورج أورويل في روايته 1984 "إنه من الطبيعي أن تاريخ الحضارة هو بشكل كبير تاريخ السلاح".
في عام 1455 اخترع غوتنبرغ آلة الطباعة المتنقلة. بدأ استعمال هذه الألة فورا في أوروبا. وبدأوا بالبحث عن الكتب القيمة الجديرة بالطباعة بآلتهم الجديدة. وبعد طباعة بعض الكتب باللغة اللاتينية وأولها الكتاب المقدس التفتوا فوجدوا علوم اليونان كانت موجودة حولهم ولكن باللغة العربية في مؤلفات ابن سينا والفارابي وغيرهم. وهذا ما خلق مشكلة لأن أحرف الآلة الجديدة كانت الأحرف اللاتينية مما اضطر الأوروبيون إلى صنع أحرف عربية معدنية و خلال مئة عام من الآلة الأولى طبع كتاب القانون في الطب لإبن سينا بالأحرف العربية و انتشر في أوروبا و ترجم بعد و ضوح أحرفه إلى اللاتينية و دُرِّس في كثير من جامعاتها. وكان ذلك نصيب كتب عربية كثيرة أخرى.
فانتقل التراث العلمي العربي الإسلامي إلى الغرب من أوسع الأبواب عن طريق المطبعة.
في ذلك الوقت كان المسلمون يتهيبون الطباعة دون سبب منطقي .و استمر هذا لثلاثمائة عام. مما أدى إلى تدهور فكري خطير. وهذا ما فتح الباب للمسلمين للخروج من المعرفة.
وفي عام 1492 م خسر المسلمين الأندلس و كسب الغرب أميركا. وبنهاية القرن الخامس عشر خسر المسلمون السيطرة على الهند وعلى حركة التجارة عن طريق البحر التي كانت تصل الهند بأوروبا. و هذا ما فتح الباب للمسلمين للخروج من الجغرافيا.
وبدون تاريخ أو جغرافيا أو إنتاج للمعرفة خرج المسلمون من الحضارة و أغلقوا الباب ورائهم بل أوصدوه جيداً.
وبحلول القرن السادس عشر تقزم النتاج العلمي للمسلمين إلى ترداد ببغائي للعلوم السابقة دون أي إبداع جديد.
وأصبح فهم القران و كنوزه رهينة لفهم وتفسير العلماء السابقين .
وفي نهاية القرن الثامن عشر بدأت صحوة المسلمين و لكن لبس على صيحات علمائهم بل على طرق نعال نابليون على أبوابهم .
وخرج المسلمون لمواجهة جيش نابليون بسيوفهم وخلال مئة سنة صحت الدولة الدولة العربية و الإسلامية الواحدة تلو الأخرى على أصوات نعال أوروبية عسكرية مختلفة.صحت ليبيا على قرع نعال الجنرال غرزياني وفي سوريا على صوت نعل غورو وهو يضرب قبر صلاح الدين الأيوبي عام 1920 م قرب الجامع الأموي الذي انطلقت منه حملات الفتح الإسلامي الأول وكانت نتيجة هذه الصحوة مواجهة جديدة بين الشرق و الغرب.
فلم يعد ينظرإلى المسلمين على أنهم جزء من طريقة التفكير العلمية الغربية التي كانت في وقت من الأوقات شريكاً أساسيا في تطوير العلوم بل تغير الجو العالمي إلى"المصالح".
تحول العالم الغربي إلى مصا لح غربية حيث توفرت كل الموارد الطبيعية و الأيدي العاملة الرخيصة. بل أكثر من ذلك فقد تحول العالم العربي خلال المئة سنة الماضية إلى حقل تجارب لأعتى و أحقد الأسلحة الغربية الفتاكة.
أدى هذا الخلل العظيم في القوة العسكرية و التقدم العلمي إلى تفسير ذلك أن الإسلام لم يعد قادرا على الدفع بالأمة إلى الأمام بل وصل إلى هذا إتهام الإسلام أنه وراء تخلف المسلمين و ذلك شيء طبيعي فعند تخلخل الواقع فإن الناس ستفهم القيم و المثل التي يقوم عليها هذا الواقعز
وفي تلك اللحظة ولدت الحداثة العربية في أوروبا.ثم ما لبثت الحداثة أن عادت من أوروبا ممثلة بأذكى العقول العربية التي كانت قد تعلمت في أرقى معاهد أوروبا.
وبنهاية القرن التاسع عشر و بحلول القرن العشرين كانت المعركة بين الحداثة و الأصالة قد وصلت إلى أشدها. وظهر ذلك جليا في نموذج المناظرات بين مصطفى صادق الرافعي و طه حسين. كان الموضوع الرئيسي لهذه المناظرات هو مصداقية التراث الإسلامي بأكمله كونها تعتمد على مصداقية وجود الشعر الجاهلي .ولكن خلال تلك المناظرات ضاعت كثير من المفاهيم في خضم تلك المعارك .لم يعد الناس يهتمون بالحقيقة بل بالقوة . ويكرر التاريخ نفسه ولكن فقط السذج هم من يفشل أن يستوعب ذلك. وصل أولئك الذين يدعون أنهم يريدون تحرير العقل العربي إلى السلطة كما و صل المعتزلة إليها قبل 1000 عام.
صادر محرروا العقول حق الناس في حرية التفكير كما صادر قبلهم المعتزلة حق أحمد بن حنبل حرية السؤال عن دليل على دعوى خلق القرآن. لم يعد باستطاعة محرروا العقول تحمل أصوات المعارضين وكان الحل هو السجن لأولئك المعارضين كما عذب المعتزلة أحمد بن حنبل وكل من عارضهم. واصل الغرب خلال ذلك عرض نفسه كرمز للحرية لأن محرري العقول ذوي الأصل الشرقي كانوا يقومون بدورهم على أتم وجه و بحلول نهاية القرن العشرين خرج الأصوليون الإسلاميون من السجن و انتقلوا إلى الغرب .كان كل ما اصطحبوه معهم مجموعة من العادات والقيم العتيقة عمرها 1400 سنة.
ولدهشة الغرب فقد ظهر أن القيم و المثل بإمكانها أن تتجاوز الزمان و المكان و الأشخاص.
بدأ المسلمون رحلة العودة إلى التاريخ و الجغرافيا و العلم إيذاناً من هؤلاء بالعودة للحضارة من جديد.
ولكن هناك شئ واحد جاء به أولئك المغتربون وهو كراهيتهم لنظام المصالح.
كان هذا النظام يعني لهم أن أهليهم في الشرق مازالو ضحايا الظلم أي مازال الشرق يقف حجر عثرة في وجه التقدم للحضارة ولكن هذا النظام يعتبر اليوم العامود الفقري للغرب الجديد. نظام يضحّي بالأخلاق في سبيل المصا لح.
المواجهة العربية الغربية:
كانت هذه المواجهة الجديدة في نهاية القرن العشرين تشكل نوعا ما رداً على المواجهة التي حدثت في بدايات نفس القرن ولكن كانت هناك فروق بين المواجهتين تستحق الذكر.
في المواجهة الأولى كان معظم الطلاب العرب الذين ذهبوا للغرب من أذكى وأغنى وأرقى الطبقات والذين ذهبوا للغرب بغيه التحصيل العلمي العالي.
وكان بقاؤهم في الغرب لفترة مؤقتة. وبالمقابل فقد كان الطلاب الذين هاجروا في الموجة الثانية من الملاحقين في بلادهم والذين انقطعت بهم سبل العيش الكريم. وغادر معظم أولئك صوب الغرب بحثاً عن الحرية والمال. وبسبب ذلك فإن إقامتهم في الغرب كانت دائمة لأن الفقر وانعدام الحرية استمر في بلدانهم. المواجهة الأولى استوردت المفاهيم والقيم من الغرب فيما صدرت المواجهة الثانية مفاهيماً وقيماً أخرى له. هذا التبادل للقيم والمفاهيم لم يساهم في رأب الصدع بين الغرب والشرق بل على العكس ساهم في اتساعه وذلك للبعد الكبير بين منظومة المصالح الغربية ومنظومة القيم العربية.
تغير شكل تبادل المفاهيم في القرن الحادي والعشرين بسبب ثورة الإتصالات. لم يعد الناس بحاجه للسفر لاستيراد أو تصدير المفاهيم بل أصبحت المفاهيم قادرة على السفر عبر الألياف الضوئية للنقل إلى أي ملتقى حيث توجد الشبكة العنكبوتية ومهما يكن من أجل تلقي أي مفهوم عبر تلك الشبكة كان لابد للمتلقّي أن يكون لديه الوقت اللازم لقراءتها وفهمها وبهذا أصبح توفر الوقت شرطاً لابد منه للتقدم الثقافي والفكري.
ولأن معظم وقت الناس أصبح اليوم مستهلَكاً في العمل لسد لقمة الجوع وللتسلية لغرض التسلية فقد انعدم الوقت اللازم تقريبا لإنتاج وتطوير المفاهيم. ولهذا قد توقف التقدم الثقافي تقريباً بين الشباب العربي الذي يشكل معظم الأمـّة.
وبما أن العلم والتربية والمعرفة يشكِّل حجر الزاوية في الأمم المتقدمة فإن حل مشكلة الجهل والأميـَّة يصبح شرطاً لابدَّ منه لأي نهضة نريدها. ولأن الوقت أصبح شرطاً لابد منه لتحصيل المعرفة والعلم فإن الحاجة إلى توفير الوقت أصبح ضرورة لابد منها.
وأصبح مفهوم الوقت واستخدامه ضرورة لابد منها لأي شاب يريد تحقيق أحلامه.
وأصبح استثمار الوقت في تحصيل المعارف شرط لابد منه لرقي الشباب لأن أوقات الشباب غالية .إن المتأمل في الجيلين من الشباب الذين هاجروا للغرب يجد أنهم أصبحوا في أعلى الدرجات بسبب استثمار الوقت.
إن هذا الاستثمار للوقت هو الذي سيبني الشباب الذي سيقوم بعملية النهضة.
إن وظيفة من يريد أن يساعد الشباب على هذا هو توفير المعلومة لهم كي يستطيعوا تحصيلها في أقل وقت ممكن عندها فقط سنستطيع أن ننتج المعلومات
د. طارق بن زياد أبو غزالة
لو أنك سألت مفكراً من المفكرين الغربيين من قائل العبارة التالية:"لا يمكنك أن تقف في نفس النهر مرتين"؟ فستكون الإجابة "هرقليطس"ولو سألته ماهي الفكرة الرئيسة لمؤلفات كل من أفلاطون وأرسطو وشكسبير ولوك ووليم جيمس وهيغل وماركس.... فسيكون الجواب موحداً نوعاً ما.
إن هذه الوحدة النوعية في الإجابة تدل على أن هناك نظاماً فكرياً يحكم العالم الغربي وخاصةً الدوائر الفكرية العليا التي ترسم للمجتمع سياساته عموماً.
إنّ مشكلة العالم الإسلامي ذات شقين:
أولاً: نحن المسلمين لدينا فكرة قد تكون غير صحيحة عن مفكري الغرب وكثيرٌ من الدراسات الإسلامية الفكرية تعتبر نظرية المؤامرة ركناً أساسياً في صياغة خطابها للناس. فكارل ماركس مثلاً متآمرٌ على الإسلام فهو جزء من نظرية المؤامرة والتي تتضمن فرويد ودارون . وكثيراً ماتقدم أفكار ماركس على أنها مرتبطة بأ فكار فرويد ودارون رغم أن ماركس كان متأثراً على حدٍ كبير بنظرية هيغل التي تتحدث عن تقدم التاريخ والتي استعملها ماركس للتنبؤ بنهاية التاريخ بوصف أن الشيوعية هي أهم وآخر مراحله.
وعلى مستوى آخر يوصف كثيرٌ من مفكري عصر النهضة الأوروبية بأنهم ضد الدين رغم أن كتاباتهم كانت بالأساس موجهة ضد سلطة الكنيسة في القرون الوسطى.
هؤلاء المفكِّرين يُعتبرون في الوعي الإسلامي جزءاً من نظرية المؤامرة لتحطيم الدين أو للقضاء على عبادة الإله .
ولكي يكون المرء منصفاً يجب التبيين أن كثيراً من هذه الكتابات الغربية لم تكن ضد الله بقدر ما كانت ضد سلطة الكنيسة على العقل والتي كانت تنتشر في طول أوروبا وعرضها.
ثانيا: نحن المسلمين لدينا فكرة مبهمة عن تراثنا بسبب الفهم الغامض عن كيفية تشكُّل هذا التراث.
إنَّ إحدى أهم مفاصل تشكل هذا التراث كانت في حركة الترجمة التي جرت خلال الدولة العباسية خلال حكم الخليفة المأمون. هذه الحركة حدثت بسبب احتكاك المسلمين بمؤلفات اليونان وترجمتها. كثير من علماء المسلمين اليوم يعتبرون حركة الترجمة هذه بدايه للانحدار الإسلامي وكثيراً مايستشهدون بكتابات أبي حامد الغزالي الكلاسيكية كالمنقذ من الضلال وتهافت الفلاسفة. وكثير منهم لايستطيعون تحمل ابن رشد لا لشيء إلا لأنَّه ردَّ على تهافت الفلاسفة بكتاب تهافت التهافت.
وبغض النظر عمن هو على صواب أو على خطأ فإن هذا الاحتكاك بين المسلمين واليونان لم يكن بالامكان تجنبه لإن الإسلام يأمر المسلمين بشكل لالبس فيه بالسير في الأرض والسفر بغية التعارف مع الشعوب والقبائل الأخرى لهذا فإن المسلمين كانو سيحتكـّون باليونان عاجلاً أو آجلاً. وهذا الاحتكاك حدث عندما تواجه المسلمون مع الإمبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية.
هذه الإمبراطورية كانت قد ورثت الإمبراطورية الرومانية الغربية والتي كانت قد ورثت بدورها أعمال اليونان.
خلال تلك الفترة كان العرب منهمكين في ترجمة أعمال اليونان والفرس والهنود. لم يترجم العرب تلك الأعمال فحسب بل أضافوا إليها. هذه الإضافات جاءت في شكل طريقة جديدة للوصول إلى الحقيقة.
لقد اخترع العرب الطريقة التجريبية والطريقة التثبتية؛ الأولى ضرورية للعلوم العلمية والثانية ضرورية للعلوم الشرعية في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في القرون الوسطى وكان هناك سجال فكري يتحدث عن مدينة الله ومدينة الإنسان .
كان المسلمون يعيشون في مدينة واحدة لا فرق بين الدين والحياة! وبدون هذه العلوم التي نقلها المسلمون وأضافوا إليها لكان العلم قد توقف ولاحتاجت الإنسانية إلى ألف سنة أخرى حتى تستيقظ. بالإضافة إلى اختراع هذه الطرق العلمية أضاف المسلمون بـُعداً جديدا للعلم وهو البعد الأخلاقي .
في مقدمه كتابه "المناظر" يصف المهندس البصري أبو علي الحسن بن الهيثم الطريقة العلمية
فيقول:
وقد كنا ألفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثير من مقاييسها طرقاً إقناعية فلما توجهت لنا البراهين المحققة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب.
فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.
….وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة.
وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث وإذا حقق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.
ولما كان ذلك كذلك وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة وكيفية الإبصار غير متيقنة رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان ونخلص العناية به ونتأمله ونوقع الجد في البحث عن حقيقته ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات ونميز خواص الجزئيات ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج
ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات.
وما نحن مع جميع ذلك برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.
إن ما يأخذ بالألباب أنَّ هذا العالم الجليل التزم التزاماً كاملاً بهذا المنهج في أعماله كما ألزم به نفسه في مقدمة كتابه.
يقول إبن أبي أصيبعة عن ابن الهيثم في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء:
"أقول ونقلت من خط ابن الهيثم في مقالة له فيما صنعه وصنفه من علوم الأوائل إلى آخر سنة سبع عشرة وأربعمائة لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، الواقع في شهور سنة ثلاث وستين الهلالية من عمره ما هذا نصه، قال إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتاباً في اعتقادات هذه الناس المختلفة وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي، فكنت متشككاً في جميعه، موقناً بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية، انقطعت إلى طلب معدن الحق، وجهت رغبتي وحدسي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون، وتنقشع غيابات المتشكك المفتون، وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى اللَّه جل ثناؤه، المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه، فكنت كما قال جالينوس في المقالة السابعة من كتابه في حيلة البرء يخاطب تلميذه لست أعلم كيف تهيأ لي، منذ صباي، إن شئت قلت باتفاق عجيب، وإن شئت قلت بإلهام من اللَّه، وإن شئت قلت بالجنون، أو كيف شئت أن تنسب ذلك، أني ازدريت عوام الناس واستخففت بهم، ولم التفت إليهم، واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا أشياء أجود ولا أشد قربة إلى اللَّه من هذين الأمرين،
قال محمد ابن الحسن فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات، وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجاً، ولا إلي الرأي اليقيني مسلكاً مجدداً، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية، وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات، التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها…."
لم يكن ابن الهيثم العالم المسلم الوحيد الذي أُعجب بعلوم اليونان ولكن كان واحداً من كثيرين منهم ابن رشد وابن سينا و الفارابي والكندي والخوارزمي وجابر بن حيان وغيرهم آخرين.
والأن لنأخذ خطوة إلى الوراء ولننظر إلى الصورة الكلية:
ولفهم تلك الصورة الكلية لابد من فهم الوضع العالمي لذلك الزمان لكي نفهم تأثير الإسلام على ذلك الوضع.
كان اليونانيون قد بدأوا شيئا من التفكير العلمي لمواجهه التفكير الأساطيري الذي كان سائداً في زمنهم حوالي ألف سنه قبل ولادة المسيح عليه السلام.
وورث الرومان طريقه التفكير هذه ولكن ومع تنصر الدولة الرومانية حدث صراع شديد بين النصرانية والفلسفة اليونانية كانت نتيجة هذا الصراع مدمرة للامبراطورية الرومانية.
في بدايه هذا الصراع انتصرت النصرانية عندما تنصر الإمبراطور الوثني قسطنطين في القرن الرابع الميلادي ثم أصبحت أوروبا كلها نصرانية في وقت قصير بعد ذلك.
وبحلول عام 410 م تعرضت روما لأولى غزوات البرابرة الذي أتو من منغولية وسيطروا على أوربا كلها وأعادوها إلى قرون الظلام خلال قرن من الزمان.
في ذلك الزمان نفذت النقود كوسيلة للتبادل التجاري وعاد الناس إلى تبادل البضائع . ساد الإقطاع نواحي الحياة. تهاوت المعرفه لعدم وجود وقت للقراءة وأصبح الناس جاهلين بماوراء جدران بيوتهم. توقفت الفنون والفلسفة والحوارات.
لم يعد هناك وجود لحكومة وظيفية فعالة. حكم القوي الضعيف وتجهـّز الأمل للرحيل عن الإنسان لأن الإنسان نسي الأمل.
في تلك الأحوال الحالكة وفي عام 570 للميلاد ولد الرسول الكريم محمّد علية الصلاة والسلام وفي عام 610 للميلاد أرسل الله محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام للإنسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور. وأنزل الله عليه القرآن وفي فترة وجيزة تقدم المسلمون في مجالات العلوم وطوروا طرائق جديدة للتفكير اعتماداً على هدي القرآن والسنة.
وبحلول عام 900 م كان للمسلمين قصب السبق في كافة ميادين العلوم.
ترجم المسلمون خلال ذلك أعمال اليونان إلى العربية ثم نقلوها و أضافوا عليها و حذفوا منها . ومن ثَمَّ تلقت أوربا هذا النتاج و نبت عليه نهضتها فيما بعد.
بدأ انحدار المسلمين في القرن الخامس عشر الميلادي رغم أن فتح القسطنطينية على يد محمّد الفاتح حدث في نفس القرن عام 1453 م.
حدث هذا الانحدار رغم أن المسلمين كانوا لا يزالون يملكون بعض زمام القوة ولكن طريقة تفكيرهم تدهورت ولم يعد هناك تفكير حر أو أفكارٌ خلاقة تدفع بالمجتمع إلى الأمام. ووصل الاجتهاد إلى أدنى مستوياته رغم أنه لم ينقطع.
وعزف المسلمون عن تطوير صناعة البارود خوفاً من تأثيرها المدمر على عدوهم " الإنسان".
واعتقدوا أن الرحمة للعالمين تتناقض مع إعداد العدة و امتلاك أحدث العدد العسكرية و هذا ما هيأ الأجواء لفقدان القوة المنظم و الذي تظاهر بانعدام الجاهزية العسكرية لمواجهة القوة الغربية التي كانت بدأت بالبزوغ على الأفق.
بهذا ابتدأ المسلمون خروجهم من التاريخ . و كما يقول جورج أورويل في روايته 1984 "إنه من الطبيعي أن تاريخ الحضارة هو بشكل كبير تاريخ السلاح".
في عام 1455 اخترع غوتنبرغ آلة الطباعة المتنقلة. بدأ استعمال هذه الألة فورا في أوروبا. وبدأوا بالبحث عن الكتب القيمة الجديرة بالطباعة بآلتهم الجديدة. وبعد طباعة بعض الكتب باللغة اللاتينية وأولها الكتاب المقدس التفتوا فوجدوا علوم اليونان كانت موجودة حولهم ولكن باللغة العربية في مؤلفات ابن سينا والفارابي وغيرهم. وهذا ما خلق مشكلة لأن أحرف الآلة الجديدة كانت الأحرف اللاتينية مما اضطر الأوروبيون إلى صنع أحرف عربية معدنية و خلال مئة عام من الآلة الأولى طبع كتاب القانون في الطب لإبن سينا بالأحرف العربية و انتشر في أوروبا و ترجم بعد و ضوح أحرفه إلى اللاتينية و دُرِّس في كثير من جامعاتها. وكان ذلك نصيب كتب عربية كثيرة أخرى.
فانتقل التراث العلمي العربي الإسلامي إلى الغرب من أوسع الأبواب عن طريق المطبعة.
في ذلك الوقت كان المسلمون يتهيبون الطباعة دون سبب منطقي .و استمر هذا لثلاثمائة عام. مما أدى إلى تدهور فكري خطير. وهذا ما فتح الباب للمسلمين للخروج من المعرفة.
وفي عام 1492 م خسر المسلمين الأندلس و كسب الغرب أميركا. وبنهاية القرن الخامس عشر خسر المسلمون السيطرة على الهند وعلى حركة التجارة عن طريق البحر التي كانت تصل الهند بأوروبا. و هذا ما فتح الباب للمسلمين للخروج من الجغرافيا.
وبدون تاريخ أو جغرافيا أو إنتاج للمعرفة خرج المسلمون من الحضارة و أغلقوا الباب ورائهم بل أوصدوه جيداً.
وبحلول القرن السادس عشر تقزم النتاج العلمي للمسلمين إلى ترداد ببغائي للعلوم السابقة دون أي إبداع جديد.
وأصبح فهم القران و كنوزه رهينة لفهم وتفسير العلماء السابقين .
وفي نهاية القرن الثامن عشر بدأت صحوة المسلمين و لكن لبس على صيحات علمائهم بل على طرق نعال نابليون على أبوابهم .
وخرج المسلمون لمواجهة جيش نابليون بسيوفهم وخلال مئة سنة صحت الدولة الدولة العربية و الإسلامية الواحدة تلو الأخرى على أصوات نعال أوروبية عسكرية مختلفة.صحت ليبيا على قرع نعال الجنرال غرزياني وفي سوريا على صوت نعل غورو وهو يضرب قبر صلاح الدين الأيوبي عام 1920 م قرب الجامع الأموي الذي انطلقت منه حملات الفتح الإسلامي الأول وكانت نتيجة هذه الصحوة مواجهة جديدة بين الشرق و الغرب.
فلم يعد ينظرإلى المسلمين على أنهم جزء من طريقة التفكير العلمية الغربية التي كانت في وقت من الأوقات شريكاً أساسيا في تطوير العلوم بل تغير الجو العالمي إلى"المصالح".
تحول العالم الغربي إلى مصا لح غربية حيث توفرت كل الموارد الطبيعية و الأيدي العاملة الرخيصة. بل أكثر من ذلك فقد تحول العالم العربي خلال المئة سنة الماضية إلى حقل تجارب لأعتى و أحقد الأسلحة الغربية الفتاكة.
أدى هذا الخلل العظيم في القوة العسكرية و التقدم العلمي إلى تفسير ذلك أن الإسلام لم يعد قادرا على الدفع بالأمة إلى الأمام بل وصل إلى هذا إتهام الإسلام أنه وراء تخلف المسلمين و ذلك شيء طبيعي فعند تخلخل الواقع فإن الناس ستفهم القيم و المثل التي يقوم عليها هذا الواقعز
وفي تلك اللحظة ولدت الحداثة العربية في أوروبا.ثم ما لبثت الحداثة أن عادت من أوروبا ممثلة بأذكى العقول العربية التي كانت قد تعلمت في أرقى معاهد أوروبا.
وبنهاية القرن التاسع عشر و بحلول القرن العشرين كانت المعركة بين الحداثة و الأصالة قد وصلت إلى أشدها. وظهر ذلك جليا في نموذج المناظرات بين مصطفى صادق الرافعي و طه حسين. كان الموضوع الرئيسي لهذه المناظرات هو مصداقية التراث الإسلامي بأكمله كونها تعتمد على مصداقية وجود الشعر الجاهلي .ولكن خلال تلك المناظرات ضاعت كثير من المفاهيم في خضم تلك المعارك .لم يعد الناس يهتمون بالحقيقة بل بالقوة . ويكرر التاريخ نفسه ولكن فقط السذج هم من يفشل أن يستوعب ذلك. وصل أولئك الذين يدعون أنهم يريدون تحرير العقل العربي إلى السلطة كما و صل المعتزلة إليها قبل 1000 عام.
صادر محرروا العقول حق الناس في حرية التفكير كما صادر قبلهم المعتزلة حق أحمد بن حنبل حرية السؤال عن دليل على دعوى خلق القرآن. لم يعد باستطاعة محرروا العقول تحمل أصوات المعارضين وكان الحل هو السجن لأولئك المعارضين كما عذب المعتزلة أحمد بن حنبل وكل من عارضهم. واصل الغرب خلال ذلك عرض نفسه كرمز للحرية لأن محرري العقول ذوي الأصل الشرقي كانوا يقومون بدورهم على أتم وجه و بحلول نهاية القرن العشرين خرج الأصوليون الإسلاميون من السجن و انتقلوا إلى الغرب .كان كل ما اصطحبوه معهم مجموعة من العادات والقيم العتيقة عمرها 1400 سنة.
ولدهشة الغرب فقد ظهر أن القيم و المثل بإمكانها أن تتجاوز الزمان و المكان و الأشخاص.
بدأ المسلمون رحلة العودة إلى التاريخ و الجغرافيا و العلم إيذاناً من هؤلاء بالعودة للحضارة من جديد.
ولكن هناك شئ واحد جاء به أولئك المغتربون وهو كراهيتهم لنظام المصالح.
كان هذا النظام يعني لهم أن أهليهم في الشرق مازالو ضحايا الظلم أي مازال الشرق يقف حجر عثرة في وجه التقدم للحضارة ولكن هذا النظام يعتبر اليوم العامود الفقري للغرب الجديد. نظام يضحّي بالأخلاق في سبيل المصا لح.
المواجهة العربية الغربية:
كانت هذه المواجهة الجديدة في نهاية القرن العشرين تشكل نوعا ما رداً على المواجهة التي حدثت في بدايات نفس القرن ولكن كانت هناك فروق بين المواجهتين تستحق الذكر.
في المواجهة الأولى كان معظم الطلاب العرب الذين ذهبوا للغرب من أذكى وأغنى وأرقى الطبقات والذين ذهبوا للغرب بغيه التحصيل العلمي العالي.
وكان بقاؤهم في الغرب لفترة مؤقتة. وبالمقابل فقد كان الطلاب الذين هاجروا في الموجة الثانية من الملاحقين في بلادهم والذين انقطعت بهم سبل العيش الكريم. وغادر معظم أولئك صوب الغرب بحثاً عن الحرية والمال. وبسبب ذلك فإن إقامتهم في الغرب كانت دائمة لأن الفقر وانعدام الحرية استمر في بلدانهم. المواجهة الأولى استوردت المفاهيم والقيم من الغرب فيما صدرت المواجهة الثانية مفاهيماً وقيماً أخرى له. هذا التبادل للقيم والمفاهيم لم يساهم في رأب الصدع بين الغرب والشرق بل على العكس ساهم في اتساعه وذلك للبعد الكبير بين منظومة المصالح الغربية ومنظومة القيم العربية.
تغير شكل تبادل المفاهيم في القرن الحادي والعشرين بسبب ثورة الإتصالات. لم يعد الناس بحاجه للسفر لاستيراد أو تصدير المفاهيم بل أصبحت المفاهيم قادرة على السفر عبر الألياف الضوئية للنقل إلى أي ملتقى حيث توجد الشبكة العنكبوتية ومهما يكن من أجل تلقي أي مفهوم عبر تلك الشبكة كان لابد للمتلقّي أن يكون لديه الوقت اللازم لقراءتها وفهمها وبهذا أصبح توفر الوقت شرطاً لابد منه للتقدم الثقافي والفكري.
ولأن معظم وقت الناس أصبح اليوم مستهلَكاً في العمل لسد لقمة الجوع وللتسلية لغرض التسلية فقد انعدم الوقت اللازم تقريبا لإنتاج وتطوير المفاهيم. ولهذا قد توقف التقدم الثقافي تقريباً بين الشباب العربي الذي يشكل معظم الأمـّة.
وبما أن العلم والتربية والمعرفة يشكِّل حجر الزاوية في الأمم المتقدمة فإن حل مشكلة الجهل والأميـَّة يصبح شرطاً لابدَّ منه لأي نهضة نريدها. ولأن الوقت أصبح شرطاً لابد منه لتحصيل المعرفة والعلم فإن الحاجة إلى توفير الوقت أصبح ضرورة لابد منها.
وأصبح مفهوم الوقت واستخدامه ضرورة لابد منها لأي شاب يريد تحقيق أحلامه.
وأصبح استثمار الوقت في تحصيل المعارف شرط لابد منه لرقي الشباب لأن أوقات الشباب غالية .إن المتأمل في الجيلين من الشباب الذين هاجروا للغرب يجد أنهم أصبحوا في أعلى الدرجات بسبب استثمار الوقت.
إن هذا الاستثمار للوقت هو الذي سيبني الشباب الذي سيقوم بعملية النهضة.
إن وظيفة من يريد أن يساعد الشباب على هذا هو توفير المعلومة لهم كي يستطيعوا تحصيلها في أقل وقت ممكن عندها فقط سنستطيع أن ننتج المعلومات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق