الاثنين، 11 أكتوبر 2010

يوسف الصديق, الرحلة من البداوة إلى الحضر.

يوسف الصديق, الرحلة من البداوة إلى الحضر.

د.طارق أبو غزالة


لعل من أمتع و أفيد ما شاهدت حديثاً مسلسل يوسف الصديق في رمضان. وبعيدا عن أي إشكال أو جدل فقهي يحرم أو يحلل المسلسل لتجسيد شخصية نبي الله يعقوب و نبي الله يوسف و رسول الوحي جبريل عليهم السلام فإن هذا المسلسل بحق من أهم وأخطر المسلسلات التي عرفت طريقها إلى المشاهد العربي والمسلم شيعيا كان أو سنيا, عربيا أو أعجميا و مردُّ تلك الخطورة هو السرد التاريخي لمرحلة هامة من حياة الإنسانية قدرت لها الحكمة الإلهية سورة كاملة في الوحي الخاتم تروي القصة كاملة.
والقصة كما نعرفها تقع في السورة الثانية عشرة في الجزء الثاني عشر و الثالث عشر من القرآن تقرأ في اثنتي عشرة دقيقة.

ولكن السرد الدرامي للمسلسل جاء في خمس وأربعين حلقة كلّ حلقة مدتها خمسون دقيقة.

هذا التفصيل جاء إما من كتب التفسير أو من استنتاجات منطقية تملأ الفراغات التي سكت عنها الوحي الإلهي.


والقصة هي قصة طفل غريب هو أعجوبة عصره في الجمال والذكاء و النبوغ حسده إخوته وزهدوا به فأصبح بسبب هذا الزهد و الحسد عبدا مملوكا ضعيفا بعيداً غريباً عن أهله ووطنه, في بيت عزيز مصر.

ولكن مع هذا الاستعباد جاء الانتقال من حياة البداوة إلى حياة الحضر. وهنا تتجلى تعقيدات حياة الحضر و سهولة وقوع الظلم بسبب طغيان القوي على الضعيف كيومنا هذا.

ولكن مع ذلك تبقى حياة الحضر أرفع درجة من حياة البدو ومحل شكر النعمة من الله كما يتجلى ذلك في آخر السورة إذ يخاطب يوسف أباه "وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو".

هما أمران إذاً من رحلة يوسف جعلهما رديفين و مناط إحسان الله له. الأول الخروج من السجن و الثاني أن جاء الله بأبويه و بإخوته من حياة البداوة إلى حياة الحضر.

وكأن ذلك المجيء هو خروج من السجن بحد ذاته يستأهل شكر المنعم.

هذه الحياة الحضرية سمحت في نهاية الأمر ليوسف العبد المملوك الضعيف أن يصبح عزيز مصر مكان الذي زَجَّ به في السجن من قبل دونما ذنب, وهذا ما يستحيل تحققه في حياة البداوة والقبيلة إذ يستحيل تقريباً أن تنحاز القبيلة إلى من هو خارج عنها ضد أحد أبنائها ناهيك عن أن يصل لأعلى المناصب فيها لأن في هذا تهديد لأهمّ سرٍّ من أسرار بقائها و إلا لما كانت القبيلة!

من هنا نعي الفهم العميق لجيل الصحابة الأول لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فالمنطق يوجب يومها أن يفهم الصحابة هذا القول ضمن السياق القبلي السائد وهم يرونه من حولهم كل يوم فاعلاً على أرض الواقع.

ولكن هذا الدرس من أهم الدروس التي على الجاليات المسلمة أن تعيه وهي تعيش في كنف حضارة الغرب بعد أن أحسن الله إليها وأتى بها من البدو حيث تسلط العوائل والقبائل على مقدرات البلاد والعباد مسخّرة لحفنة قليلة من الناس. ولعل قائل أن يقول ولكن ما تقول عنه أنه حضر أيضاً تتسلط عليه فئة الأغنياء و يدافعون عن مكتسباتهم بكل قوة و قسوة. ذلك صحيح.

ولذلك فإن قصة يوسف تعلم كيفية التعامل مع واقع كهذا دون تشنج ودون الوقوف على ما قد يثني عن الهدف الأساس وهو بث روح العدالة في المجتمع ورفع الظلم الواقع على الناس فيأتي التوحيد بعد ذلك كتحصيل حاصل.

تختلف تلك المعالجة عن معالجة مجتمع بدوي قبلي لا يقيم وزنا لقيم العدالة فكان لزاماً أن تجري فيه عملية مفاصلة ابتداءً لتغيير نظام إلى نظام, وهو ما جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ولكن مع الانتقال إلى مجتمع المدينة الزراعي ذي الأديان المختلفة من إسلام و يهودية تغير الحال مرة أخرى.

ففي مكة كانت المفاصلة واضحة و كان القرآن المكي يتنزل بتلك المفاصلة العقيدية على المسلمين وذلك كي يعرف من يدخل الإسلام أن التوحيد بيّن و الشرك بيّن. فلا لبس بينهما.

ومن ثمَّ كانت تواجه كل محاولات قريش في التلبيس على هذا البيان بالرفض القاطع بين هذين المفهومين. وكأنّ السياق التاريخي للإسلام يؤكد أن هناك أسساً في البناء لا ينبغي التفريط بها وإلا فرطت الهوية.

ولكن مع انتقال الرسول الكريم إلى حياة أكثر حضرية في مدينة ذات تشابكات دينية و اجتماعية

و سياسية تختلف عن نظيرتها في مكة فإن الخطاب القرآني المدني تحول ليعالج كل ما ينتج عن هذه التشابكات بعيداً عن خطوط المفاصلة في الحياة اليومية وإن بقيت تلك الخطوط واضحة كلما اصطدم المسلمون الموحدون بالمشركين اصطداماً عسكرياً وذلك حتى تبقى المفاهيم الحاكمة والمميزة للهوية هي الراسمة للإطار العام لتلك الهوية.

ولكن مع عودة الحياة في المدينة إلى طبيعتها يعود القرآن إلى استئناف إضاءته لشعاع التحضر

و المدنية في تشريعاته المعجزة الحاكمة بين الناس جميعاً في الدولة على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و أعراقهم.

و قصص الدعاوى المرفوعة من غير المسلمين على قادة المسلمين في تلك الدولة و الدول التي تلتها أكثر من أن تعدّ و تحصى.

ثم يكمل الهدي النبوي بعد ذلك الإضاءة ببيان تعدد وتشابك العلاقات " الحلال بيّن و الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات"

فتظهر الصورة داخل الإطار وقد تعددت ألوانها وتدرجات تلك الألوان وظهرت أن مساحات العفو في الشريعة هي الناظمة لتلك الصورة لمن يتأملها من بعيد.

وهنا تأتي أهمية قصة يوسف عليه السلام. فقصة يوسف هي قصة الحضارة تتنزل و تتلى في عهد القبلية والبداوة.

فيوسف ولد في البداوة و لكن سرعان ما انتقل إلى الحضارة وترعرع و نشأ فيها وهو غلام.

و أتاه الوحي وهو بين ظهراني تلك الحضارة فكان لا بد من معالجة مختلفة. فالمفاصلة التوحيدية مع الآخرين لا تظهر كما تظهر واضحة في مكة.

فالتوحيد يظهر إما في حنايا أدعية يوسف لله أوقات الشدة أو في زوايا السجن إذ يُسأل عن تعبير الرؤيا لنزيلين في السجن آخرين.

حتى في أحلك المشاهد و يوسف يُدعى إلى المعصية يقول "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي" يختلف المفسرون من ربُّ يوسف المقصود هنا, أهو الله أم عزيز مصر؟ و بغض النظر عما قصده يوسف فالمعنيان مقبولان.

أما القرآن المكي فلا لبس فيه "أإله مع الله"؟

إذاً هي سورة الحضارة في عهد المفاصلة.

هي إذا دروس للمسلمين وهم بين ظهراني الحضارة غير المسلمة في كيفية التعامل معها. والواضح من تلك الدروس أمور عدة:

إن فرض العقيدة على الآخرين ليس من سنن الحضارة بل هو من سنن البداوة والقبلية. قريش أرادت فرض هبل و اللات و العُزّى على المسلمين و إخراجهم من دينهم و لو بكشط الجلود.

وكذلك فرض الأفكار على الآخرين ليس من سنن الحضارة بل من سنن البداوة حيث أفكار القبيلة وأفكار رئيسها هي التي يجب أن تسود.

ومن هنا نفهم رفض الإمام مالك بن أنس فكرة الخليفة أبي جعفر المنصور فرض كتابه "الموطأ" على باقي الأمصار وكأنها الحضارة تجسدت في مالكٍ ترفض بداوة و قرشية أبي جعفر المنصور. وهنا تتجسد فكرة عظيمة و هي كيف تقبلت الأمة ذلك الكتاب بعد رفض الإمام مالك فرضه فأصبح من كتبها الخالدة و لعمري لو رضي مالك بفرض الكتاب لأصبح الموطأ أثراً بعد عين.

ولعل فرض المذاهب يتبع تلك السنة وأقصد هنا فرض مذهب بعينه على جماعة محددة.

وهذا ما حدث في أميركا في الربع الأخير من القرن العشرين بمحاولة فرض مذهب الإمام أحمد بن حنبل والطريقة الوهابية على المسلمين هناك وذلك بما تيسر من أموال طائلة يسرت نشر منشورات المذهب وكتبه و أدبياته.

مرة أخرى البداوة تحاول فرض نفسها على الحضارة.

لعل مذهباً بعينه يكون ملائماً في زمان و مكان معينين و لكن لا يعني ذلك أن يكون المذهب كالقرآن الكريم ملائماً لكل زمان و مكان.

ومن تلك الدروس أيضاً أن ندع الحكم علينا إلى الناس ولا ننصب أنفسنا حكماً عليهم.

فالسنة الباقية في هذا المقام هي "فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" وذهاب الزبد و مكث النافع أنما يتم باختيار الناس بأنفسهم وهذه الآية من أعظم الأدلة على أن الناس ليسوا رعاع و لا دهماء و لا غوغاء.

ويوم أن يلفظ الناس حزباً إسلامياً من رأس هرم السلطة فليراجع الحزب نفسه و لا يراجع الناس.

أما تعامل البداوة والقبيلة اليوم مع الناس فهو أن الناس عالة على حكامها و أن هؤلاء الحكام نعمة الله إليهم تستوجب شكر المنعم. ولا بديل عن هذا الحاكم إلا ذريته!

ليست البلية في الحكام وحدهم بل في كافة الطاقم القبلي حول الزعيم شيخ القبيلة.


ونعود إلى يوسف عليه السلام المثال للعرب و المسلمين في بلاد الحضارة. فهو كان الموالي الخبير. إيمانه بالله في قلبه وعلى لسانه وولاؤه لمصر و حاكمها. أمّا عمله فعمّ نفعه الأمصار وعم المؤمنين و الكفار حتى وصل إلى الكنعانيين في فلسطين فأثمر ذلك أن جاء الله بأبيه و إخوته إليه ليعينوه على رسالة التوحيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق