السبت، 30 أغسطس 2014


نهاية معنى جميل.
د. طارق أبو غزالة

في عام ١٩٨٣ اشتهرت في العالم أغنية أيطالية بعنوان (لايتاليانو) "الإيطالي" لمغنٍّ إيطالي اسمه توتو كوتونيو.
كنت يومها طالبا في الصف الحادي عشر في دمشق، ولعل الصف الحادي عشر أجمل الصفوف فهو يمثل بدء الوعي عند الشباب دون مسؤولية الصف الثاني عشر أي البكالوريا التي تفرز عادة الطلاب إما إلى الجنة أو إلى النار.
لم أعلم معاني الأغنية إلا أن لحنها وصوت المغني كانا جميلين جدا إلى درجة أن الأغنية بقيت في لا وعيي لسنوات طويلة. ربما كان سبب ذلك أيضا تعاطفي ومحبيتي لإيطاليا حين أهدت كأس العالم الذي فازت به لفلسطين مدة أسبوع إبان الغزو الإسرائيلي على لبنان صيف ١٩٨٢. 
لم يكن يخطر ببالي بعد كل هذه السنين أنني سأعيد اكتشاف الأغنية لكن ليس بسبب لحنها وصوت المغني فحسب بل بسبب معاني كلماتها التي سهلت الإنترنت كل الوسائل لاستدعاء الماضي ومعانيه الغائبة والتي لولاها لبقينا في جهلنا عن أمور كثيرة من ماضينا.
فبعد أن وجدتُ الأغنية منذ عدة سنوات بالبحث على غوغل استطعت الاستماع إليها مجددا لكن مرة أخرى دون معرفة المعاني. لم تكن الترجمة قد حطت رحالها في غوغل بعد.
واليوم وأثناء تصفحي للإنترنت وجدت الأغنية مرة أخرى لكن هذه المرة وجدتها مع المعاني المترجمة بفصاحة إلى اللغة الإنكليزية وترجمة أخرى رديئة إلى العربية لا تنقل المعنى.
أذهلتني ترجمة الأغنية ومعاني كلماتها. أحسست بشعور كل إيطالي وهو يغنيها. بحثت أكثر عن الأغنية فوجدت معلومات مهمة عن الفن وما يفعله بالشعوب.


فالأغنية أول ما صدرت في العام ١٩٨٣ لكوتونيو وأصبحت أشهر أغانيه على الإطلاق وكانت سبب شهرته على مستوى إيطاليا. ثم غابت الأغنية وطواها النسيان طوال عقد التسعينات حتى عام ٢٠٠٦ حين فاز المتخب الإيطالي بكأس العالم. حينها غنى كوتونيو أغنيته "الإيطالي" في حفل غنائي خيري ما أدى إلى بعث جديد للأغنية بين الطليان أصبحت معه الأغنية من أشهر الأغاني الإيطالية لا بل العالمية. فمنذ تنزيل الأغنية على يوتيوب عام ٢٠٠٨ حصلت على قرابة ٢٢ مليون مشاهدة وهو عدد هائل بالنسبة لأغنية من عام ١٩٨٣

كل ذلك أدى إلى استنساخ لحن الأغنية دون المعاني لثقافات أخرى فغناها مغن دانماركي وغناها الثنائي الهندي سانجيف - درشان بنفس أسلوب أغاني الأفلام الهندية حين تشعر أن كل الهند تغني وترقص في الأغنية.
لكن المفاجأة كانت حين استنسخت مغنية مصرية اسمها لارا اسكندر أيضا اللحن دون المعنى وغنت أغنية "تعالوا غنوا معايا" ولست هنا في معرض انتقاد الأغنية بالمصري، لكن من يشاهد ويسمع الأغنية الإيطالية والمسخة المصرية يستطيع أن يفهم الكثير مما حدث في عالمنا العربي اليوم. 

نحن اليوم عاجزون حتى عن تقليد المعنى الجميل الآتي من الغرب فحرفّنا هذا الجمال ليصبح أظلم من جحر الضب.
أي حضارة هذه التي تأخذ أجمل ما عند أمة أخرى فلا تستطيع أن تعيد إنتاجه مع المحافظة على المعنى كما هو على الأقل بل تهوي به أسفل سافلين؟ أي عقل هذا الذي يتفتق عن مثل هذه الترهات وكأن المسابقة عنوانها "أن تسفل أكثر" 
هل خلت مصر أم الدنيا من عظيم الأشياء التي تستحق أن نغني لها؟ أم أن هؤلاء الذين استوطنوا ظلمات الجب لا يريدون لأحد أن يخرج منه خوف أن يصبح يوسف آخر يعتلي عرش مصر فتأتيه القوافل من الشرق يمن عليها بالنعمة الطيبة،
لن نخرج من الجحر طالما أننا نستدبر النور الذي يأتي من بابه ونحفر أكثر نحو القاع.
أول تباشير الخروج ستبدأ حين نقف عن التنقيب داخل الجحر ثم نستدير خلفا لنرى النور الذي يأتي من الخارج فنزحف نحوه. سيكون الوهج شديدا حينما نخرج من النفق ما قد يدفعنا أن نعود داخله. لكن الصبر على الوهج قليلا سيسمح لنا أن نرى الأشياء تدريجيا لننطلق بعد ذلك في رحلتنا الطويلة.




الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

عقرب بلودان الذي قضى على سوريا

عقرب الصيف في بلودان الذي قضى على سوريا
د. طارق أبو غزالة
قصة قصيرة حقيقية:


في صيف عام 1985 وبعد امتحانات البكالوريا قررنا أنا وبعض أصحاب المدرسة أن نكافئ أنفسنا برحلة تخيمية إلى جبال بلودان. وفعلا جمّعنا أنفسنا وتقاسمنا العمل حتى وصلنا إلى منطقة خلف منطقة أبو زاد عند عين ماء بارد زلال يقال لها "عين حزير" كان الوقت ظهرا حين وصلنا. بدأنا بنصب الخيام ولم ننته إلا بعيد العصر حيث انكسر حر الشمس وبدأت نسائم باردة تداعب وجناتنا الشابة. كنا جائعين بانبرى بعضنا للطبخ والنفخ بينما جلس آخرون يستريحون تحت ظلال الخيام فيما بدأت الشمس تميل للمغيب. ما لبث فريق الطهي أن انتهى من اعداد الطعام, حتى كان كل ما أعد قد أصبح في خبر كان من الجوع, نزدرده لقما بلعا لا مضغا.
ثم بدأ الكسل يدب فينا من تعب اليوم وشعور الشبع الذي يوسد العينين.. ومع ذلك بقي منا البعض وهم يأبون إلا أن يكملوا اليوم على شيء من طرب ففتح أحدهم الراديو ولم يلبث أن انساب صوت السيدة أم كلثوم الساحر مع موسيقاها الخفيفة. وانصرف البعض للعب الشطرنج وآخرون للعب الشدة... مع صيحات خافتة هنا وهناك فيما كانت أصوات بعيدة خافتة تصل إلينا كلما هبت نسائم الليل العليلة ثم ما تلبث أن تحتفي....
 كان كل شيء يوحي بالكمال فنحن في سوريا, في عاصمتها الخالدة دمشق في درة مصايفها بلودان على شبع ونغم عذب وطقس جميل وأمان. كأنما حيزت لنا الدنيا بحذافيرها....
وبدأ من بقي منا يعد العدة للنوم .... وبعد التهيؤ والاستعداد.... ولبس ملابس النوم... 
أردنا دخول الخيام...
وفجأة ودونما قصد لمح أحدنا شيئا مريبا في الظلام.. قرب رجل أحدهم.... وجهنا الضوء على ذلك الشيء... فإذا هو عقرب سامّ قد تربص بنا.... لم يتحرك العقرب ولم يتحرك صديقنا فكلاهما قد تجمد مكانه وكلنا يعلم أن أي حركة خاطئة قد يكون معناها موتا زؤاما لصديقنا... فنحن في أعالي الجبال بعيدون عن أي منفذ للحضارة بما لا يقل عن ساعتين... لا تكفي للوصول لأصغر نقطة طبية... 
تحرك صديقنا بعيدا وبحذر... ثم تناول آخر حذاء ... وضرب العقرب على رأسه... ضربة, ضربتين... ثلاث.... مات العقرب...
تحققنا من موته... لكن أصوات الشجاعة الجبانة التي كنا قد أطلقناها لنطرد بها عن أنفسنا الخوف كانت كافية لتوقظ باقي الخيام...
اجتمعنا على جثة عقربنا وقد فارقتها الحياة... 
تنفسنا الصعداء... وانزاح غمّ عن صدورنا... لكن هنا.... بدأنا نعي ما حدث... إن كنا قد قتلنا هذا العقرب... فهذا يعني أن هناك عقارب أخرى.. كانت هذه الفكرة كافية كي تطرد عن أعيننا النوم... وهنا بدأنا بعملية مسح عسكري للمنطقة نبحث عمن بقي من العقارب وربما الأفاعي... وربما الكلاب الضالة... أو لعله ضبع يتربص بنا... أو ذئب بات جوعانا وينتظر أن ننام كي يسكت جوعته...
تداعت كل هذه الأفكار إلى رؤوسنا ومع كل فكرة يزداد منسوب الخوف في نفوسنا... حتى وصل حدا استحال معه النوم... لكننا كنا قد أنهكنا... فقررنا أن نعد العدة لكا هؤلاء الأعداء... نمنا يومها بأحذيتنا... ووضعنا جواربنا داخلها خوف دخول العقارب... ثم تناوبنا على الحراسة... مع أن حارسنا كان أنعسنا... كل ذلك بسبب عقرب واحد. 
أيقنا في تلك الليلة أن عقربا واحدا استطاع أن يغير علينا أيام رحلتنا السعيدة.....
هاأنا اليوم وبعد ثلاثين عاما على ذلك أتذكر كيف أن عقربا واحدا غير رحلتنا...
واليوم في سوريا خرجت العقارب السامة فلدغت وقتلت مئات الآلاف ممن كانوا إلى الأمس القريب يظنون تلك العقارب أهلاً وأحباباً... 
الآن بعد أن لدغت العقارب ما لدغت.... كيف سيمكن للهذا الشعب الطيب أن يدخل خيمته مرة أخرى آمنا مطمئنا لينام؟ كيف سيطمئن لتلك العقارب.
نحن لم نستطع أن ننام بعد أن اكتشفنا عقربا واحدا على باب خيمتنا قبل عقود ثلاث.
كيف سينام من دخل العقرب بيته وقتل أمه وأباه وأخته وأخاه؟ 
بدون حل مشكلة العقرب لن تستطيع سوريا أن ترجع إلى خيمتها.

الأحد، 13 يوليو 2014

ألمانيا والأرجنتين؛ معركة الوصفتين والشباب العربي
د. طارق أبو غزالة




رغم أنني لم أحب الفريق الألماني يوما خاصة منذ تآمره مع النمسا على فريق الجزائر في كأس العالم عام 1982. لكن الذي يدفعني لتشجيعه هذه المرة شيء مختلف تماما.
إنه ليس وجود لاعبين عربا ومسلمين ضمن صفوف الفريق رغم أن ذلك يجعلني أميل إليه نوعا ما, لكنه أمر آخر.
إنها رحلة إعداد هذا الفريق التي تختلف عن باقي الفرق والتي ستؤسس لطريقة جديدة في قوانين إعداد الفرق كرويا ومهنيا.

الحضيض:
عام 2000 كانت ألمانيا قد وصلت إلى الحضيض حين خرجت من الدور الأول في تصفيات كأس الأمم الأوروبية فيما كانت قبل ذلك بسنتين قد أُخرجت على يد كرواتيا من الدور الثاني في كأس العالم.
عندها بدأت حملة مراجعة كبيرة للمنتخب الألماني الذي كان يعتبر ذروة سنام المجد في ألمانيا إلى عهد قريب.
كان من نتائج هذا المراجعة أن اتحاد اللعبة وصل إلى وصفتين للحل.
الأولى سحرية تعتمد على إيجاد اللاعب الأوحد المعجزة ومن ثم الاستثمار فيه ليقود ألمانيا إلى عزها الكروي مجددا. كانت هذه الفكرة مغرية خاصة أن ألمانيا كانت قد جربتها مرتين ونجحت حين كان لديها العملاق  فرانز باكينباور, ومن بعده كارل هاينز رومينيغة.
لكن سرعان ما صُرِف النظر عن هذه الوصفة لعلم الألمان أنها مؤقتة إضافة إلى أن أي هزة أو إصابة باللاعب المعجزة ستطيح بها كليا.
وبدأ العمل والانكباب على الوصفة الثانية.
 فما هي هذه الوصفة الثانية؟

الوصفة الواقعية
بدأ اتحاد اللعبة والمسؤولون فيه بتحليل الأسباب الحقيقية لضعف الفريق فوصلوا إلى نتيجة مفادها أن المنتخب الوطني هو انعكاس طبيعي لحالة الدوري الوطني على كل المستويات. حينئذ وضع البوندسليغا خطة محكمة للاستثمار بكافة الأندية من مرحلة الأطفال إلى الرجال مرورا بالناشئين والشباب خطة محكمة غرضها ليس صناعة نجم استعراضي واحد لكن صناعة اثنين وعشرين نجم حقيقي يعوض واحدهم الآخر أو كما يصف ذلك حاتم الطائي: 
 إذا مات منا سيد قام بعدهُ  نظير له، يغني غناه ويخلفُ

في غضون هذا الإعداد غابت ألمانيا عن إحراز أي لقب يذكر فيما احتكرت الأندية الإسبانية والإنكليزية الألقاب كلها تقريبا لكن الماكينة الألمانية مضت تعمل بصمت وتؤودة دون ضجيج يذكر أنفقت خلالها أندية الدوري الوطني الثمانية عشرة  في هذه الرحلة ما يقاربمبلغ 820 مليون يورو كان منها 80 مليون يورو أنفقت على إعداد الشباب في العام الفائت وحده ما دفع مدرب المنتخب الوطني "جوغي لو" إلى التصريح أواخر العام الماضي: إننا نعدُّ أنفسنا كأبطال للعالم.
بدأ ثمار الإعداد بالظهور فتصاعد الخط البياني للألمان سنة وراء أخرى ليصل ذروته في كأس العالم الحالية وهنا لا بد أن نعلم أن الفريق الألماني استكمالاً لرحلة العالمية هذه بنى على حسابه مجمع مكوث وتدريب فريقه في البرازيل ليتوافق مع باقي خطته.

مضت المباريات الأولى سراعا حتى وصلت الماكينة الألمانية إلى موقعة البرازيل, تلك المباراة التي كانت نموذجا لصراع الوصفتين:
وصفة اللاعب الساحر النجم الأوحد في مقابل فريق النجوم.
يومها حدث أن النجم الأوحد البرازيلي نيمار كان غائبا لإصابته في ظهره بينما غاب نجم دفاعه تياغو سيلفا لحصوله على كرتين أصفرين. 
لم يكن الألمان ليربحوا بهذا النتيجة الصاعقة لولا خروج النجمين لكن بالمقابل لم وجودهما ليعطل عمل آلة النجوم.
إن نتيجة مباراة البرازيل وألمانية هي نتيجة طبيعية لما يمكن أن يحصل عندما تتلاقى مدرستان إحداهما على أتم الاستعداد بينما الأخرى قد خسرت كل رأس مالها دفعة واحدة.
مباراة اليوم بين الأرجنتين وألمانيا مختلفة عن مباراة البرازيل كون النجم الأوحد ميسي مازال على رأس عمله. لذلك ستكون هذه المباراة معيارا دقيقا لمعركة الوصفتين.
لا يهمني من كل ما سبق مباراة النهائي ولا من يفوز بكأسها, لكن ما يهمني هو الدرس الذي يجب أن نتعلمه نحن العرب في هذا الزمن بالذات حين خرجنا نريد انتزاع حريتنا من جلادينا. الكل يعلم أننا خرجنا دون إعداد حقيقي لهذا اليوم وحققنا رغم ذلك نتائج باهرة تجلت بالإطاحة ببعض الرؤوس التي أهرمتنا خلال العقود الماضية. وبدلا من البدء بالعمل على تشكيل فريق النجوم التفتنا نبحث عن النجم الأوحد الذي يقودنا في هذه المعركة. وغني عن القول أن هذا النجم الأوحد لم يكن ليوجد في هذه الظروف وما سبقها.
وإذ لم نجد ذلك النجم الهادي, ظهرت مؤخرا أصوات تقول بأن المهدي على وشك الظهور بل البعض يقسم أنه ظهر لكنه يستعد للإعلان عن نفسه في واحدة من أسخف الحجج التي يسوقها المنهزم ليبرر هزيمته.
هذا التبرير المبني على ما خلاصته أننا أناس طيبون وجيدون, لذلك ورغم عدم أهليتنا لأي قيادة فإننا نستأهل واسطة من الله اسمه المهدي ليعيدنا إلى القمة, وهو الأمر ذاته الذي كان العرب قد ثاروا عليه قبل ثلاث سنوات أي نظام الواسطة التي يتوسط فيها القوي كي ينتزع غيرُ صاحب الحقِّ الحقَّ من صاحبه.
إننا في وضع لا نحسد عليه. بلادنا تتشظى والناس تقتل بل يذبح بعضهم بعضاً ورغم ذلك مازال فينا من يؤمن أن النجم الأوحد هو طريق خلاصنا.
ليكن لنا في الألمان عبرة. ولنبدأ من رياض الأطفال والأشبال ونستثمر فيها الجهد والمال.
إذا كان الألمان قد أنفقوا خلال ثلاثة عشرة سنة 820 مليون يورو كي يصلوا للكأس, أليس حريا بنا أن نستثمر ما يماثل ذلك لنصل للعالمية؟

لنعمل على بناء الفرد ونسلحه بأدوات المعرفة التي يستطيع بها خوض غمار القرن الواحد والعشرين فدون تلك المعارف لن نستطيع أن نتقدم قيد أنملة, فإن الجهل الذي يهدد باجتياح أجيال كاملة من أمتنا سيكون شرطا كافيا وحده لمنع أي تقدم أو نهوض من كبوتنا. إذ يمكن أن تنهض أمة فقيرة كما حدث في الهند ويمكن أن تنهض أمة يحكمها استبداد كما شاهدنا في الصين, ويمكن أن تنهض أمة بعد ويلات حرب كما حصل لليابان, ويمكن أن تنهض أمة تجزأت كما في ألمانيا, لكن كل هذه الأمم عملت على تعويض عوامل النقص هذه عبر الاستثمار في المعرفة ليقينها أنه لا يمكن لأمة جاهلة أن تنهض لأن الجهل عامل كافٍ وحده ليمنع كليّا أي نهوض محتمل.

ما يحتاجه شباب العرب اليوم هو التيقن أنه لا حلول سحرية أمامهم كذلك ليس هناك طرق مختصرة للوصول إلى الهدف المنشود, بل هناك واقع لا بد من معرفته ودراسته ووضع خطة معرفية للتغلب عليه.
مثال بسيط أذكره من عالم كرة القدم يوضح كيف كانت أنظمة الاستبداد العربية تسعى للوصول إلى اللقب الذي تستر به عورتها أمام شعوبها بأي طريقة ومن هذه الطرق تزوير أعمار اللاعبين على جوازات سفرهم بغية إنقاصها كي يلعب الرجال في بطولات الشباب, والشباب في بطولات الناشئين وهكذا, كل تلك الطرق الملتوية بغية الكأس, ولو كان الأمر إلي لدفعت بالشباب ليلاعبوا الرجال, والناشئين ليواجهوا الشباب في طريق الإعداد الطويل.

من دون دراية الواقع والإعداد له بخطة معرفية سنبقى نراوح مكاننا ونثير الغبار نظن أننا نقطع القوافي.
ختاماً أسأل الله أن لا تكون قافية بيت الشاعر هي ما ينجلي عنه غبارنا حين يقول:

ستعلم حين ينجلي الغبارُ ...... أفرسٌ تحتكَ أم حمار ُ




هل دخلت إسرائيل عصر ضعفها؟
د. طارق أبو غزالة

صحيح أن إسرائيل دولة قوية وعندها جيش عرمرم واختراعات علمية والذي منه لكن كل قوة إسرائيل مردها لشيء واحد فقط وهو ضعف الجوار العربي وهذا الضعف سببه أيضا شيء واحد فقط وهو استبداد بعض العائلات بمقدرات هذا الشعوب التي تحكمها بالحديد والنار. 
بمجرد أن تنتفض هذه الشعوب وتبدأ بالثورة على استبداد هذه العيل فإن قوة إسرائيل ستبدأ بالتناقص حتى تتلاشى. 
نحن اليوم نعيش مرحلة انتفاضة الشعوب ضد المستبدين التي بدأت منذ أكثر من ثلاث سنوات وما زالت مستمرة رغم عودة المستبدين بشكل أشرس من السابق بكثير. لهذا فإن ما يحدث في غزة اليوم ليس سببه قوة المقاومة فقط لكن سببه ضعف المستبدين الذين كانوا يساندون المقاومة باللسان بينما يمررون لإسرائيل كل الدعم من تحت الطاولة. اليوم هؤلاء المستبدون مشغولون بانتفاضات شعوبهم في دول الإقليم لذلك لسان حالهم مع إسرائيل يقول لها هذه المرة عليك أنت إنقاذنا كي نستطيع الاستمرار في قمع شعوبنا لكنهم نسوا أهم قاعدة تحكم كل هذه المعادلات وهي أن قوة إسرائيل إنما مصدرها أصلا هم لأنهم هم الحبل من الناس الذي ذكره ربنا. وإذ بدأ هذا الحبل من الناس بالتقطع جراء ثورات الشعوب فإن إسرائيل تكون قد ولجت لمرحلة ضعف حقيقي غير كاذب وهو ما نشاهد آثاره اليوم ماثلة للعيان. 
مسكين ذلك الذي استطاع قراءة مشهد تحرر شعوب أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات كلوحة واحدة متجانسة ثم يفشل في قراءة تجانس نفس المشهد في منطقتنا مع ما يوجد من فوارق بين المشهدين ورحم الله أبو القاسم الشابي الذي فهم العامل المشترك الأعظم لكل ذلك فصاغه في بيت شعره الأشهر "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"

الاثنين، 7 يوليو 2014

ثم تكون خلافة على منهاج النبوة
د. طارق أبوغزالة

"ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" إشارة وردت في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم لزمن يأتي بعده يُحكم به المسلمون بخلافة على نهجه العادل. تعددت تأويلات تلك الإشارة التي يحاول الكثير منها اليوم أن يضفي صبغتها على حكم الداعشي البغدادي . لكن المقصود بها والله أعلم خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لعدة أسباب:

1- أنها أتت بعد الملك العضوض الذي أصاب المسلمين فيه شدة على يد الحجاج بن مسلم الثقفي ولما أصاب الأمة من فتنة قتل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وبعد الملك الجبري حين أصبح ولي العهد مفروضا بالإجبار على الرعية يحدده الخليفة قبل موته.

2- من المستبعد أن يكون مقصد النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر بن عبد العزيز لأنه رغم قصر فترة حكمه (سنتين ونيّف)  إلا أن خيرها الهائل عم بلاد المسلمين من أقصاها إلى أقصاها إلى درجة أن الأمة أطلقت عليه الخليفة الراشد الخامس فيما لم تطلق ذلك اللقب على الصحابي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ولازال أثر تلك الخلافة باقيا في نفوس المسلمين إلى يومنا هذا رغم بعد الزمان عنها. وإن نحن رفضنا فكرة أن فترة حكم عمر بن عبد العزيز هي ما قصده النبي فهذا يعني أن تلك الفترة ستدخل ضمن الملك العضوض أو الجبري وكلا المُلكين أبعد ما يكون عن تلك الفترة المباركة مما سيؤدي إلى خلل في السياق التاريخي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أو أن النبي غفل عن خلافة عمر رغم أثرها الذي وثقه المؤرخون وقالوا أنه يشابه فترة حكم الخلافة الراشدة. أي أن النبي أنبأ بحكم الراشدين والأمويين والعباسيين لكنه أسقط فترة حكم بن عبد العزيز من السياق التاريخي رغم الأثر الهائل الذي أحدثته تلك الفترة في المسلمين رغم قصرها, وحاشا لرسول الله ذلك.

3- الحديث أدناه يساند فرضية أن خلافة عمر بن عبد العزيز هي المعنية بكلامه صلى الله عليه وسلم ذلك أن الأمة بمجرد أن أصبح عمر أميرا للمؤمنين تبادر إلى أذهانهم مباشرة أنه هو المعني بالإشارة النبوية:
روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. 
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه.

كل ذلك يدعونا إلى نبذ فكرة أن الخلافة على منهاج النبوة قامت فينا اليوم على يد الداعشي البغدادي السفاح الذي أكثر ما يشبه حكم الحسن بن الصباح مؤسس الدولة النزارية الإسماعيلية وفرقة الحشاشين في إيران عام 1090 ميلادي التي كان يرسل أفرادها الفدائيين بعد غسل أدمغتهم لاغتيال وزراء وسلاطين الدولة السلجوقية وعلى رأسهم الوزير الأكبر نظام الملك ما أدى إلى تقويض دولة السلاجقة ومن بعد ذلك توسع دولة الحشاشين في سوريا التي استطاعت أيضا أن ترهب الكثير من السلاطين السنة بما فيهم الناصر صلاج الدين بأسلوب الاغتيال أو التهديد به. واليوم يلجأ البغدادي لنفس أسلوب الحسن بن الصباح فهو يكفر كل من ليس على ملته فقد اعتبر أن الرئيس محمد مرسي مرتد  وكذلك كل من رفض مبايعته. وفيما كان الحسن بن الصباح يرسل انتحارييه لاغتيال قادة المسلمين بالنصال المسمومة فإن البغدادي الداعشي يرسل انتحارييه بالأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة ليفجروا أنفسهم بين المسلمين.






السبت، 5 يوليو 2014

"فلمّا أنبأهم بأسمائهم"
د. طارق أبوغزالة


لم تكد الملائكة تسمع الله يخاطبها قائلاً: إِنِّيْ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً...  معلناً بذلك عن ولادة الإنسان ليكون خليفة في الأرض حتى تساءلت متعجّبة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ

إنها تهمتان إذاً تتهم بها الملائكةُ آدمَ حتى قبل أن يصبح خليفة ويتسلَّم مهامه في الأرض, تهمة الإفساد وتهمة سفك الدماء.

التهمة الأولى الإفساد وهو بمثابة مقدمة لكل ما ينتج عنها حتى يصل الإفسادإلى ذروته المتمثلة بسفك الدماء. 
الإفساد مقدمة, وسفك الدماء نتيجة له, بل أفظع نتائجه. ومابين المقدمة والنتيجة حياة كاملة من الشر تخيلها الملائكة ورموا آدم بها. 
لكن الله لم يكن ليخلق آدم ويجعله خليفة من دون إعداده لتحمل مسؤوليات الاستخلاف 
فيجيب الله الملائكة: قَالَ إِنِّيْ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُوْنَ. البقرة 30

وتبدأ عملية إعداد آدم وتأهيله ليصبح أهلاً لتحمل الأمانة بخطوتين اثنتين: 
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... البقرة 31 
إنها الخطوة الأولى في عملية الإعداد في إشارة إلى أن هذه العملية لا بد لها بداية من تعليم كامل للعلم مع كل ما يحيط به من أسماء ومصطلحات ومعانٍ.  

ليس المهم هنا ماهية الأسماء التي تعلمها آدم فالله تبارك وتعالى سكت عن هذه الماهية. وقد فصل المفسرون في هذه الأسماء إلا أن ذلك يبقى رجماً بالغيب, وحيث أن الله لم يطلعنا على هذا الغيب فلا مجال لأحد أن يكون قد عَلِمَه من غير هذا المصدر.
إنها إذاً عملية إدخال المعلومة؛ الخطوة الأولى في عملية البناء.
واستكمالا لهذه الخطوة يسأل الله تبارك عزوجلّ الملائكة: 
...فَقَالَ أَنْبِئُوْنِيْ بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ.. البقرة 31 
لكن الملائكة توقفت عن ذلك لأنها لم تتعلم تلك الأسماء: 
قَالُوْا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا.. البقرة 32 
في إشارة تعليمية بالغة الأهمية تستكمل الخطوة الأولى وتهيئ للثانية. وهي واجب التوقف عن الإدلاء بأي معلومة حين تغيب عن المسؤول عنها. فلو علم الملائكة تلك الأسماء لأنبؤوا عنها فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. 
بعد ذلك مباشرة ينتقل الخطاب الإلهي إلى الخطوة الثانية في عملية تأهيل آدم وهي
"قدرة المتعلم بعد التعليم على الإنباء بشكل صحيح عما تعلمه"
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ... البقرة 33
استعمل البيان الإلهي لفظ الإنباء لما يحتويه من دقة في نقل المعلومة تشهد بذلك مواضع هذا اللفظ الأخرى في القرآن الكريم:
عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم.
ولا ينبئك مثل خبير.
قالت من أنبأك هذا, قال نبأني العليم الخبير.
فالإنباء إذاً هو الخطوة التالية في عملية التأهيل. ويكوِّن مع العلم الضمانة الكاملة التي تقوم في وجه الإفساد وسفك الدماء حين حدوثهما.
وهنا وبعد أن يتم آدم اختباره بنجاح وينبئ عما تعلمه على الوجه الصحيح يبادر البيان القرآني: 
فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... البقرة 33
إنه الإنباء عن العلم إذاً الذي يميز الإنسان الذي يستطيع مقاومة الإفساد وإصلاح ما نجم عنه.
فصّل المفسرون كثيرا في معاني "الأسماء كلها" رغم أنها من علم الغيب, لكنهم لم يفصِّلوا في معاني "فلماّ أنبأهم" وهي الشرط المتمم لعملية تأهيل آدم التعليمية التي جعلته أهلا للاستخلاف في الأرض وعمارتها ونفي تهمة الإفساد وسفك الدماء عنه .
هذه الرحلة التي تبدأ بتعلم العلم وأسمائه مفرادته في الحياة ومن ثم النضج فيه والتمكن منه ليصل إلى درجة الإنبائية من دون تحريف أو تشويه هي رحلة الموضوعية في القرآن الكريم التي تبدأ بـ:
إني جاعل في الأرض خليفة ...
ولا تنتهي إلا والله يقول:
اليوم أكملت لكم دينكم. 
إن العلم والإنباء ضرورة لا بد من منها لمحاربة الإفساد وسفك والدماء. ولو تمعنا قليلا في هذين المعنيين لرأينا أن إتمام العناصر المكونة لهذا النموذج ضروري جدا لفهمه بشكل كامل. 
فالعنصر الأول كما أسلفنا أعلاه هو نموذج العلم والإنباء الذي مثَّله آدم عليه السلام فاستحق بذلك شرف الاستخلاف في الأرض.
أما النموذج الثاني فهو نموذج الملائكة الذين لم يؤتَوا علم الأسماء فتوقّفوا عن الإنباء عنها إذ سُئلوا. وهذا النموذج يمثله قولهم"لا علم لنا"
إنه نموذج لا يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء لكنه نموذج حيادي لا يستطيع محاربتهما والانتصار عليهما.
أما النموذج الثالث فهو نموذج من يؤتى علم الأسماء لكنه يستنكف عن الإنباء عنها إذ يُسأل.
إنه نموذج كاتم الشهادة الآثم قلبه.
نموذج سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. 
أما النموذج الرابع والأخير فهو نموذج ذلك الذي لم يؤت علم الأسماء لكنه رغم ذلك ينبئ عنها من غير علم حين يُسأل.
إنه نموذج شاهد الزور الذي يشهد زورا بما لا يعلمه.
إنه الوجه الآخر لكاتم الشهادة.
وما بين شاهد الزور وكاتم الشهادة تدور أركان الشر والإفساد وسفك الدماء في هذا الكون, والأمثلة على ذلك كثيرة لا تنتهي بقتل فرد من الأفراد فحسب لكن باستعباد الشعوب تحت المسميات الكاذبة وقتل الناس جماعات بعد اختراع التهم لهم ورميهم بها جزافا.
إن استخلاف آدم في الأرض ليست عملية متروكة للمصادفة, وليس مدعاة للإفساد وسفك الدماء كما ظنت الملائكة, ولكنه على العكس تماما, عملية محكمة مفصلة بقواعد وسنن اجتماعية وعلمية تلاحق الإفساد وتحاصره وتقلل من نتائجه وما قد يؤدي إليه من شرور.
وهنا ملاحظة أخيرة لتبيين دور آدم في هذه الحياة. الملائكة ظنت أن خلق آدم سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. ولكن لما تبين لنا أن خلق آدم إنما هو الذي سيمنع ويضاد ذلك, ولما كان عكس الإفساد هو الإصلاح, وعكس سفك الدماء والموت هو الحياة, فإن مهمة آدم بالتعريف إنما هي "إصلاح الحياة". إنّ فهْمنا لذلك سيؤدي بالضرورة إلى أن نفهم أن إصلاح الحياة عملية مستمرة لن تتوقف طالما أن هناك إفساد وسفك للدماء.
سؤال أخير: أي نموذج من هذه النماذج الأربعة أنت؟





السبت، 28 يونيو 2014

الفتح باللسان والفتح بالسنان

د. طارق أبو غزالة


عرضت على صفحتي في الفيسبوك فيديو للدكتور عدنان إبراهيم يقول فيه رأيه عن الفتوحات الإسلامية. الرابط في أسفل المقال.
أرى أن هذا الفيديو ذا السبع دقائق أثار جدلا بين من شاهده. ولي على ذلك عدة ملاحظات:

أولا: الدكتور عدنان إبراهيم مختلف في طرحه عن كثير ممن سمعنا وقرأنا لهم وليس المقام عنا للدفاع أو الهجوم على الدكتور عدنان.

ثانيا: هناك فعلا أمور يطرحها الدكتور عدنان قد لا نوافق عليها. لكن ذلك لا يعني كما يحلو للبعض أن يقول أنه  يدس السم في الدسم لأن تلك المقولة تستلزم تخوينه وأنه داهية منافق حاقد على الإسلام وهذا يحتاج لدليل.

ثالثا: الدكتور في مقاربته في هذا الفيديو يحاول أن بفصل بين نوعين من الفتح الإسلامية.

أ‌-        الفتح الراشد
ب‌-     ما سوى ذلك من الفتوح.
فهو يقول أنه ليس متعاطفا مع النوع الثاني من الفتوحات بمجملها لأنه يعتبرها توسعا إمبراطوريا تنطبق عليها قوانين وسنن القوة والتوسع التي تنطبق على كل الامبراطوريات رغم أنه يلاحظ كما يقول أن الدولة الأموية والعباسية تميزتا عموما برحمة كبيرة فيما لو قارنهما بحال توسعات الامبراطوريات الأخرى.



رابعا: يستشهد الدكتور عدنان بالعلامة المؤرخ حسين مؤنس 1911-1996  صاحب المؤلف الشهير "أطلس تاريخ الإسلام" -انظر الرابط أسفل- ومؤلف "الإسلام الفاتح" والذي ميز فيه بين نوعين من الفتح وملاحظة مؤنس أن الإسلام حيث انتشر بالدعوة مكث في الأرض, وحيث انتشر بالسيف تراجع وانحسر. هذه الملاحظة لا أعتبرها إطلاقية, لكني أقول أن الفتح الذي انتشر في العصر النبوي والراشد مكث في الأرض غالبا لأن الناس أحست رحمة الإسلام قولا وفعلا فأصبحت جزءا من الدولة تتساوى مع باقي من رعاياها دون تمييز.

هذا الأمر غاب تدريجيا في الدولة الأموية من ثَمّ العباسية حيث ظهرت النزعة العربية القرشية في الأولى, بينما برزت الدعوات الشعوبية في الثانية كرد فعل على الأولى. أما في المراحل المتأخرة من تاريخ المسلمين فقد انحسر الإسلام عن معظم الدولة العثمانية اللهم إلا البوسنا وألبانيا, فيما انحسر الإسلام عن كامل الأندلس.
هذه وقائع وليست تخمينات. ما نحتاجه اليوم هو أن ننكب على دراسة هذه الظواهر. لماذا مكث الإسلام في بلاد فيما انحسر عن أخرى. ما هي خصائص الدولة الراشدة التي تمكنت من ترسيخ الإسلام حيث وصلت إليه. إن مما يمكن أن يفسر به هذه الظاهرة هو الحرص الشديد للخلفاء الراشدين (بمن فيهم الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه) على آلية معينة للفتح لا يحيدون عنها.
1-      الدعوة إلى الإسلام وقبول الشراكة المتساوية في الحقوق والواجبات في دولته.
2-      دفع الجزية أو الضريبة في حال رفضوا الدعوة.
3-      القتال. 
هذه الآلية هي التي ثبتت دعائم الإسلام في تلك الدول المفتوحة وفي معظم الأحيان لم يحتج المسلمون إلى أكثر من الدعوة إلى الإسلام. ولكن خلال الدولة الأموية ظهرت هناك بوادر خلل في تلك الآلية حين لام بعض عمال الأقاليم  الخليفة عمر بن عبد العزيز على سياسة رفع الجزية عمن أسلم ، ولكن عمر جابههم بالقول الفصل : " ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك ؛ فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا ، ولَعَمري لعُمرُ أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه "  .
كما ظهرت بوادر الخلل عند بعض القادة العسكر كما حدث في فتح سمرقند حين حاد القائد العسكري قتيبة بن مسلم الباهلي عن هذا الترتيب فغافل أهلها ودخل البلاد حربا عنوة. وباقي القصة معروفة من شكوى أهل سمرقند عما حدث لهم للخليفة عمر لهم حيث أرسل قاضيا للتحقق من الموضوع. وحين تيقن القاضي من صدق أهل سمرقند أمر الجيش بـأن يفكك منظومته ويخرج خارج البلد ثم يعيد الكرة لكن حسب الشروط المعروفة. وقبل أن ينتهي الجيش من تفكيك نفسه كانت سمرقند قد دخلت في الإسلام لما رأوا أن قاضيا ضئيل الجسم لا حول له ولا قوة يحكم على جيش جبار فأيقنوا أن ليس بعد ذلك من حاجة للإنسان إذ أصبحت حقوقه مصانة من هجوم السيف.

https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=nSrRbQnQJWU