السبت، 5 يوليو 2014

"فلمّا أنبأهم بأسمائهم"
د. طارق أبوغزالة


لم تكد الملائكة تسمع الله يخاطبها قائلاً: إِنِّيْ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً...  معلناً بذلك عن ولادة الإنسان ليكون خليفة في الأرض حتى تساءلت متعجّبة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ

إنها تهمتان إذاً تتهم بها الملائكةُ آدمَ حتى قبل أن يصبح خليفة ويتسلَّم مهامه في الأرض, تهمة الإفساد وتهمة سفك الدماء.

التهمة الأولى الإفساد وهو بمثابة مقدمة لكل ما ينتج عنها حتى يصل الإفسادإلى ذروته المتمثلة بسفك الدماء. 
الإفساد مقدمة, وسفك الدماء نتيجة له, بل أفظع نتائجه. ومابين المقدمة والنتيجة حياة كاملة من الشر تخيلها الملائكة ورموا آدم بها. 
لكن الله لم يكن ليخلق آدم ويجعله خليفة من دون إعداده لتحمل مسؤوليات الاستخلاف 
فيجيب الله الملائكة: قَالَ إِنِّيْ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُوْنَ. البقرة 30

وتبدأ عملية إعداد آدم وتأهيله ليصبح أهلاً لتحمل الأمانة بخطوتين اثنتين: 
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... البقرة 31 
إنها الخطوة الأولى في عملية الإعداد في إشارة إلى أن هذه العملية لا بد لها بداية من تعليم كامل للعلم مع كل ما يحيط به من أسماء ومصطلحات ومعانٍ.  

ليس المهم هنا ماهية الأسماء التي تعلمها آدم فالله تبارك وتعالى سكت عن هذه الماهية. وقد فصل المفسرون في هذه الأسماء إلا أن ذلك يبقى رجماً بالغيب, وحيث أن الله لم يطلعنا على هذا الغيب فلا مجال لأحد أن يكون قد عَلِمَه من غير هذا المصدر.
إنها إذاً عملية إدخال المعلومة؛ الخطوة الأولى في عملية البناء.
واستكمالا لهذه الخطوة يسأل الله تبارك عزوجلّ الملائكة: 
...فَقَالَ أَنْبِئُوْنِيْ بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ.. البقرة 31 
لكن الملائكة توقفت عن ذلك لأنها لم تتعلم تلك الأسماء: 
قَالُوْا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا.. البقرة 32 
في إشارة تعليمية بالغة الأهمية تستكمل الخطوة الأولى وتهيئ للثانية. وهي واجب التوقف عن الإدلاء بأي معلومة حين تغيب عن المسؤول عنها. فلو علم الملائكة تلك الأسماء لأنبؤوا عنها فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. 
بعد ذلك مباشرة ينتقل الخطاب الإلهي إلى الخطوة الثانية في عملية تأهيل آدم وهي
"قدرة المتعلم بعد التعليم على الإنباء بشكل صحيح عما تعلمه"
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ... البقرة 33
استعمل البيان الإلهي لفظ الإنباء لما يحتويه من دقة في نقل المعلومة تشهد بذلك مواضع هذا اللفظ الأخرى في القرآن الكريم:
عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم.
ولا ينبئك مثل خبير.
قالت من أنبأك هذا, قال نبأني العليم الخبير.
فالإنباء إذاً هو الخطوة التالية في عملية التأهيل. ويكوِّن مع العلم الضمانة الكاملة التي تقوم في وجه الإفساد وسفك الدماء حين حدوثهما.
وهنا وبعد أن يتم آدم اختباره بنجاح وينبئ عما تعلمه على الوجه الصحيح يبادر البيان القرآني: 
فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... البقرة 33
إنه الإنباء عن العلم إذاً الذي يميز الإنسان الذي يستطيع مقاومة الإفساد وإصلاح ما نجم عنه.
فصّل المفسرون كثيرا في معاني "الأسماء كلها" رغم أنها من علم الغيب, لكنهم لم يفصِّلوا في معاني "فلماّ أنبأهم" وهي الشرط المتمم لعملية تأهيل آدم التعليمية التي جعلته أهلا للاستخلاف في الأرض وعمارتها ونفي تهمة الإفساد وسفك الدماء عنه .
هذه الرحلة التي تبدأ بتعلم العلم وأسمائه مفرادته في الحياة ومن ثم النضج فيه والتمكن منه ليصل إلى درجة الإنبائية من دون تحريف أو تشويه هي رحلة الموضوعية في القرآن الكريم التي تبدأ بـ:
إني جاعل في الأرض خليفة ...
ولا تنتهي إلا والله يقول:
اليوم أكملت لكم دينكم. 
إن العلم والإنباء ضرورة لا بد من منها لمحاربة الإفساد وسفك والدماء. ولو تمعنا قليلا في هذين المعنيين لرأينا أن إتمام العناصر المكونة لهذا النموذج ضروري جدا لفهمه بشكل كامل. 
فالعنصر الأول كما أسلفنا أعلاه هو نموذج العلم والإنباء الذي مثَّله آدم عليه السلام فاستحق بذلك شرف الاستخلاف في الأرض.
أما النموذج الثاني فهو نموذج الملائكة الذين لم يؤتَوا علم الأسماء فتوقّفوا عن الإنباء عنها إذ سُئلوا. وهذا النموذج يمثله قولهم"لا علم لنا"
إنه نموذج لا يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء لكنه نموذج حيادي لا يستطيع محاربتهما والانتصار عليهما.
أما النموذج الثالث فهو نموذج من يؤتى علم الأسماء لكنه يستنكف عن الإنباء عنها إذ يُسأل.
إنه نموذج كاتم الشهادة الآثم قلبه.
نموذج سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. 
أما النموذج الرابع والأخير فهو نموذج ذلك الذي لم يؤت علم الأسماء لكنه رغم ذلك ينبئ عنها من غير علم حين يُسأل.
إنه نموذج شاهد الزور الذي يشهد زورا بما لا يعلمه.
إنه الوجه الآخر لكاتم الشهادة.
وما بين شاهد الزور وكاتم الشهادة تدور أركان الشر والإفساد وسفك الدماء في هذا الكون, والأمثلة على ذلك كثيرة لا تنتهي بقتل فرد من الأفراد فحسب لكن باستعباد الشعوب تحت المسميات الكاذبة وقتل الناس جماعات بعد اختراع التهم لهم ورميهم بها جزافا.
إن استخلاف آدم في الأرض ليست عملية متروكة للمصادفة, وليس مدعاة للإفساد وسفك الدماء كما ظنت الملائكة, ولكنه على العكس تماما, عملية محكمة مفصلة بقواعد وسنن اجتماعية وعلمية تلاحق الإفساد وتحاصره وتقلل من نتائجه وما قد يؤدي إليه من شرور.
وهنا ملاحظة أخيرة لتبيين دور آدم في هذه الحياة. الملائكة ظنت أن خلق آدم سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. ولكن لما تبين لنا أن خلق آدم إنما هو الذي سيمنع ويضاد ذلك, ولما كان عكس الإفساد هو الإصلاح, وعكس سفك الدماء والموت هو الحياة, فإن مهمة آدم بالتعريف إنما هي "إصلاح الحياة". إنّ فهْمنا لذلك سيؤدي بالضرورة إلى أن نفهم أن إصلاح الحياة عملية مستمرة لن تتوقف طالما أن هناك إفساد وسفك للدماء.
سؤال أخير: أي نموذج من هذه النماذج الأربعة أنت؟





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق