الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

عقرب بلودان الذي قضى على سوريا

عقرب الصيف في بلودان الذي قضى على سوريا
د. طارق أبو غزالة
قصة قصيرة حقيقية:


في صيف عام 1985 وبعد امتحانات البكالوريا قررنا أنا وبعض أصحاب المدرسة أن نكافئ أنفسنا برحلة تخيمية إلى جبال بلودان. وفعلا جمّعنا أنفسنا وتقاسمنا العمل حتى وصلنا إلى منطقة خلف منطقة أبو زاد عند عين ماء بارد زلال يقال لها "عين حزير" كان الوقت ظهرا حين وصلنا. بدأنا بنصب الخيام ولم ننته إلا بعيد العصر حيث انكسر حر الشمس وبدأت نسائم باردة تداعب وجناتنا الشابة. كنا جائعين بانبرى بعضنا للطبخ والنفخ بينما جلس آخرون يستريحون تحت ظلال الخيام فيما بدأت الشمس تميل للمغيب. ما لبث فريق الطهي أن انتهى من اعداد الطعام, حتى كان كل ما أعد قد أصبح في خبر كان من الجوع, نزدرده لقما بلعا لا مضغا.
ثم بدأ الكسل يدب فينا من تعب اليوم وشعور الشبع الذي يوسد العينين.. ومع ذلك بقي منا البعض وهم يأبون إلا أن يكملوا اليوم على شيء من طرب ففتح أحدهم الراديو ولم يلبث أن انساب صوت السيدة أم كلثوم الساحر مع موسيقاها الخفيفة. وانصرف البعض للعب الشطرنج وآخرون للعب الشدة... مع صيحات خافتة هنا وهناك فيما كانت أصوات بعيدة خافتة تصل إلينا كلما هبت نسائم الليل العليلة ثم ما تلبث أن تحتفي....
 كان كل شيء يوحي بالكمال فنحن في سوريا, في عاصمتها الخالدة دمشق في درة مصايفها بلودان على شبع ونغم عذب وطقس جميل وأمان. كأنما حيزت لنا الدنيا بحذافيرها....
وبدأ من بقي منا يعد العدة للنوم .... وبعد التهيؤ والاستعداد.... ولبس ملابس النوم... 
أردنا دخول الخيام...
وفجأة ودونما قصد لمح أحدنا شيئا مريبا في الظلام.. قرب رجل أحدهم.... وجهنا الضوء على ذلك الشيء... فإذا هو عقرب سامّ قد تربص بنا.... لم يتحرك العقرب ولم يتحرك صديقنا فكلاهما قد تجمد مكانه وكلنا يعلم أن أي حركة خاطئة قد يكون معناها موتا زؤاما لصديقنا... فنحن في أعالي الجبال بعيدون عن أي منفذ للحضارة بما لا يقل عن ساعتين... لا تكفي للوصول لأصغر نقطة طبية... 
تحرك صديقنا بعيدا وبحذر... ثم تناول آخر حذاء ... وضرب العقرب على رأسه... ضربة, ضربتين... ثلاث.... مات العقرب...
تحققنا من موته... لكن أصوات الشجاعة الجبانة التي كنا قد أطلقناها لنطرد بها عن أنفسنا الخوف كانت كافية لتوقظ باقي الخيام...
اجتمعنا على جثة عقربنا وقد فارقتها الحياة... 
تنفسنا الصعداء... وانزاح غمّ عن صدورنا... لكن هنا.... بدأنا نعي ما حدث... إن كنا قد قتلنا هذا العقرب... فهذا يعني أن هناك عقارب أخرى.. كانت هذه الفكرة كافية كي تطرد عن أعيننا النوم... وهنا بدأنا بعملية مسح عسكري للمنطقة نبحث عمن بقي من العقارب وربما الأفاعي... وربما الكلاب الضالة... أو لعله ضبع يتربص بنا... أو ذئب بات جوعانا وينتظر أن ننام كي يسكت جوعته...
تداعت كل هذه الأفكار إلى رؤوسنا ومع كل فكرة يزداد منسوب الخوف في نفوسنا... حتى وصل حدا استحال معه النوم... لكننا كنا قد أنهكنا... فقررنا أن نعد العدة لكا هؤلاء الأعداء... نمنا يومها بأحذيتنا... ووضعنا جواربنا داخلها خوف دخول العقارب... ثم تناوبنا على الحراسة... مع أن حارسنا كان أنعسنا... كل ذلك بسبب عقرب واحد. 
أيقنا في تلك الليلة أن عقربا واحدا استطاع أن يغير علينا أيام رحلتنا السعيدة.....
هاأنا اليوم وبعد ثلاثين عاما على ذلك أتذكر كيف أن عقربا واحدا غير رحلتنا...
واليوم في سوريا خرجت العقارب السامة فلدغت وقتلت مئات الآلاف ممن كانوا إلى الأمس القريب يظنون تلك العقارب أهلاً وأحباباً... 
الآن بعد أن لدغت العقارب ما لدغت.... كيف سيمكن للهذا الشعب الطيب أن يدخل خيمته مرة أخرى آمنا مطمئنا لينام؟ كيف سيطمئن لتلك العقارب.
نحن لم نستطع أن ننام بعد أن اكتشفنا عقربا واحدا على باب خيمتنا قبل عقود ثلاث.
كيف سينام من دخل العقرب بيته وقتل أمه وأباه وأخته وأخاه؟ 
بدون حل مشكلة العقرب لن تستطيع سوريا أن ترجع إلى خيمتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق