السبت، 30 أغسطس 2014


نهاية معنى جميل.
د. طارق أبو غزالة

في عام ١٩٨٣ اشتهرت في العالم أغنية أيطالية بعنوان (لايتاليانو) "الإيطالي" لمغنٍّ إيطالي اسمه توتو كوتونيو.
كنت يومها طالبا في الصف الحادي عشر في دمشق، ولعل الصف الحادي عشر أجمل الصفوف فهو يمثل بدء الوعي عند الشباب دون مسؤولية الصف الثاني عشر أي البكالوريا التي تفرز عادة الطلاب إما إلى الجنة أو إلى النار.
لم أعلم معاني الأغنية إلا أن لحنها وصوت المغني كانا جميلين جدا إلى درجة أن الأغنية بقيت في لا وعيي لسنوات طويلة. ربما كان سبب ذلك أيضا تعاطفي ومحبيتي لإيطاليا حين أهدت كأس العالم الذي فازت به لفلسطين مدة أسبوع إبان الغزو الإسرائيلي على لبنان صيف ١٩٨٢. 
لم يكن يخطر ببالي بعد كل هذه السنين أنني سأعيد اكتشاف الأغنية لكن ليس بسبب لحنها وصوت المغني فحسب بل بسبب معاني كلماتها التي سهلت الإنترنت كل الوسائل لاستدعاء الماضي ومعانيه الغائبة والتي لولاها لبقينا في جهلنا عن أمور كثيرة من ماضينا.
فبعد أن وجدتُ الأغنية منذ عدة سنوات بالبحث على غوغل استطعت الاستماع إليها مجددا لكن مرة أخرى دون معرفة المعاني. لم تكن الترجمة قد حطت رحالها في غوغل بعد.
واليوم وأثناء تصفحي للإنترنت وجدت الأغنية مرة أخرى لكن هذه المرة وجدتها مع المعاني المترجمة بفصاحة إلى اللغة الإنكليزية وترجمة أخرى رديئة إلى العربية لا تنقل المعنى.
أذهلتني ترجمة الأغنية ومعاني كلماتها. أحسست بشعور كل إيطالي وهو يغنيها. بحثت أكثر عن الأغنية فوجدت معلومات مهمة عن الفن وما يفعله بالشعوب.


فالأغنية أول ما صدرت في العام ١٩٨٣ لكوتونيو وأصبحت أشهر أغانيه على الإطلاق وكانت سبب شهرته على مستوى إيطاليا. ثم غابت الأغنية وطواها النسيان طوال عقد التسعينات حتى عام ٢٠٠٦ حين فاز المتخب الإيطالي بكأس العالم. حينها غنى كوتونيو أغنيته "الإيطالي" في حفل غنائي خيري ما أدى إلى بعث جديد للأغنية بين الطليان أصبحت معه الأغنية من أشهر الأغاني الإيطالية لا بل العالمية. فمنذ تنزيل الأغنية على يوتيوب عام ٢٠٠٨ حصلت على قرابة ٢٢ مليون مشاهدة وهو عدد هائل بالنسبة لأغنية من عام ١٩٨٣

كل ذلك أدى إلى استنساخ لحن الأغنية دون المعاني لثقافات أخرى فغناها مغن دانماركي وغناها الثنائي الهندي سانجيف - درشان بنفس أسلوب أغاني الأفلام الهندية حين تشعر أن كل الهند تغني وترقص في الأغنية.
لكن المفاجأة كانت حين استنسخت مغنية مصرية اسمها لارا اسكندر أيضا اللحن دون المعنى وغنت أغنية "تعالوا غنوا معايا" ولست هنا في معرض انتقاد الأغنية بالمصري، لكن من يشاهد ويسمع الأغنية الإيطالية والمسخة المصرية يستطيع أن يفهم الكثير مما حدث في عالمنا العربي اليوم. 

نحن اليوم عاجزون حتى عن تقليد المعنى الجميل الآتي من الغرب فحرفّنا هذا الجمال ليصبح أظلم من جحر الضب.
أي حضارة هذه التي تأخذ أجمل ما عند أمة أخرى فلا تستطيع أن تعيد إنتاجه مع المحافظة على المعنى كما هو على الأقل بل تهوي به أسفل سافلين؟ أي عقل هذا الذي يتفتق عن مثل هذه الترهات وكأن المسابقة عنوانها "أن تسفل أكثر" 
هل خلت مصر أم الدنيا من عظيم الأشياء التي تستحق أن نغني لها؟ أم أن هؤلاء الذين استوطنوا ظلمات الجب لا يريدون لأحد أن يخرج منه خوف أن يصبح يوسف آخر يعتلي عرش مصر فتأتيه القوافل من الشرق يمن عليها بالنعمة الطيبة،
لن نخرج من الجحر طالما أننا نستدبر النور الذي يأتي من بابه ونحفر أكثر نحو القاع.
أول تباشير الخروج ستبدأ حين نقف عن التنقيب داخل الجحر ثم نستدير خلفا لنرى النور الذي يأتي من الخارج فنزحف نحوه. سيكون الوهج شديدا حينما نخرج من النفق ما قد يدفعنا أن نعود داخله. لكن الصبر على الوهج قليلا سيسمح لنا أن نرى الأشياء تدريجيا لننطلق بعد ذلك في رحلتنا الطويلة.




الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

عقرب بلودان الذي قضى على سوريا

عقرب الصيف في بلودان الذي قضى على سوريا
د. طارق أبو غزالة
قصة قصيرة حقيقية:


في صيف عام 1985 وبعد امتحانات البكالوريا قررنا أنا وبعض أصحاب المدرسة أن نكافئ أنفسنا برحلة تخيمية إلى جبال بلودان. وفعلا جمّعنا أنفسنا وتقاسمنا العمل حتى وصلنا إلى منطقة خلف منطقة أبو زاد عند عين ماء بارد زلال يقال لها "عين حزير" كان الوقت ظهرا حين وصلنا. بدأنا بنصب الخيام ولم ننته إلا بعيد العصر حيث انكسر حر الشمس وبدأت نسائم باردة تداعب وجناتنا الشابة. كنا جائعين بانبرى بعضنا للطبخ والنفخ بينما جلس آخرون يستريحون تحت ظلال الخيام فيما بدأت الشمس تميل للمغيب. ما لبث فريق الطهي أن انتهى من اعداد الطعام, حتى كان كل ما أعد قد أصبح في خبر كان من الجوع, نزدرده لقما بلعا لا مضغا.
ثم بدأ الكسل يدب فينا من تعب اليوم وشعور الشبع الذي يوسد العينين.. ومع ذلك بقي منا البعض وهم يأبون إلا أن يكملوا اليوم على شيء من طرب ففتح أحدهم الراديو ولم يلبث أن انساب صوت السيدة أم كلثوم الساحر مع موسيقاها الخفيفة. وانصرف البعض للعب الشطرنج وآخرون للعب الشدة... مع صيحات خافتة هنا وهناك فيما كانت أصوات بعيدة خافتة تصل إلينا كلما هبت نسائم الليل العليلة ثم ما تلبث أن تحتفي....
 كان كل شيء يوحي بالكمال فنحن في سوريا, في عاصمتها الخالدة دمشق في درة مصايفها بلودان على شبع ونغم عذب وطقس جميل وأمان. كأنما حيزت لنا الدنيا بحذافيرها....
وبدأ من بقي منا يعد العدة للنوم .... وبعد التهيؤ والاستعداد.... ولبس ملابس النوم... 
أردنا دخول الخيام...
وفجأة ودونما قصد لمح أحدنا شيئا مريبا في الظلام.. قرب رجل أحدهم.... وجهنا الضوء على ذلك الشيء... فإذا هو عقرب سامّ قد تربص بنا.... لم يتحرك العقرب ولم يتحرك صديقنا فكلاهما قد تجمد مكانه وكلنا يعلم أن أي حركة خاطئة قد يكون معناها موتا زؤاما لصديقنا... فنحن في أعالي الجبال بعيدون عن أي منفذ للحضارة بما لا يقل عن ساعتين... لا تكفي للوصول لأصغر نقطة طبية... 
تحرك صديقنا بعيدا وبحذر... ثم تناول آخر حذاء ... وضرب العقرب على رأسه... ضربة, ضربتين... ثلاث.... مات العقرب...
تحققنا من موته... لكن أصوات الشجاعة الجبانة التي كنا قد أطلقناها لنطرد بها عن أنفسنا الخوف كانت كافية لتوقظ باقي الخيام...
اجتمعنا على جثة عقربنا وقد فارقتها الحياة... 
تنفسنا الصعداء... وانزاح غمّ عن صدورنا... لكن هنا.... بدأنا نعي ما حدث... إن كنا قد قتلنا هذا العقرب... فهذا يعني أن هناك عقارب أخرى.. كانت هذه الفكرة كافية كي تطرد عن أعيننا النوم... وهنا بدأنا بعملية مسح عسكري للمنطقة نبحث عمن بقي من العقارب وربما الأفاعي... وربما الكلاب الضالة... أو لعله ضبع يتربص بنا... أو ذئب بات جوعانا وينتظر أن ننام كي يسكت جوعته...
تداعت كل هذه الأفكار إلى رؤوسنا ومع كل فكرة يزداد منسوب الخوف في نفوسنا... حتى وصل حدا استحال معه النوم... لكننا كنا قد أنهكنا... فقررنا أن نعد العدة لكا هؤلاء الأعداء... نمنا يومها بأحذيتنا... ووضعنا جواربنا داخلها خوف دخول العقارب... ثم تناوبنا على الحراسة... مع أن حارسنا كان أنعسنا... كل ذلك بسبب عقرب واحد. 
أيقنا في تلك الليلة أن عقربا واحدا استطاع أن يغير علينا أيام رحلتنا السعيدة.....
هاأنا اليوم وبعد ثلاثين عاما على ذلك أتذكر كيف أن عقربا واحدا غير رحلتنا...
واليوم في سوريا خرجت العقارب السامة فلدغت وقتلت مئات الآلاف ممن كانوا إلى الأمس القريب يظنون تلك العقارب أهلاً وأحباباً... 
الآن بعد أن لدغت العقارب ما لدغت.... كيف سيمكن للهذا الشعب الطيب أن يدخل خيمته مرة أخرى آمنا مطمئنا لينام؟ كيف سيطمئن لتلك العقارب.
نحن لم نستطع أن ننام بعد أن اكتشفنا عقربا واحدا على باب خيمتنا قبل عقود ثلاث.
كيف سينام من دخل العقرب بيته وقتل أمه وأباه وأخته وأخاه؟ 
بدون حل مشكلة العقرب لن تستطيع سوريا أن ترجع إلى خيمتها.