الأربعاء، 29 أغسطس 2012

مرسي والثورة السورية, آخر الآمال قبل خراب البصرة.


مرسي والثورة السورية, آخر الآمال قبل خراب البصرة.
د. طارق أبو غزالة

لم تشهد ثورة من ثورات الربيع العربي شدًّا وجذبًا مثلما شهدته الثورة السورية. لم يقتصر هذا الشدّ و الجذب على القوى الثورية في مقابلة النظام المستبد لكنه تجاوز حدود سوريا إلى جوارها وإقليمها ومن ثمّ إلى كافة المحافل الدولية في نسق لم يشهد العالم له نظيرا منذ عقود.
إن ما تعرضت له سوريا خلال سنة ونصف من تدمير وتفتيت وقتل وتهجير لهو الكارثة و النازلة و المصيبة بعينها وهذه حقيقة لا ينكرها أحد, لكن هذه الكارثة و النازلة و المصيبة لم تنته بعد وليس شيء في الأفق يدل على قرب انتهائها رغم كل ما يبثه الطرفان النظام الجلّاد والضحية المقاومة عن قرب بشائر النصر كل حسب روايته.  فالقتل و التدمير مازال ينزل بالسوريين ليل نهار حتى فقدنا التوجه متى يبدأ عدّ الشهداء في فترة الأربع و العشرين ساعة.
وقد أصبح من المسلّم به اليوم لدى الكثيرين أن كل ما يحدث في سوريا له هدف واحد هو إضعاف هذا الشعب المقاوم على يد جلّاد لا يرحم و بتواطئٍ دولي مريب اجتمع فيه الفيتو الروصيني مع الصمت الأوروأمريكي ثم ما لبث أن زاد من ذلك دعم النظام بمحور يستند إلى طائفية بالية عمرها أكثر من ألف سنة من إيران إلى العراق فحزب الله ولكلٍّ من هؤلاء أجندته الخاصة به المنفصلة عن أجندة النظام السوري, حتى صار وضع السوريين من كثرة التآمر عليهم كبيت المتنبي: وكنت إذا أصابتني سهامٌ   تكسَّـرت النصالُ على النصال. فالمؤامرة تتلوها المؤامرة والمهلة تتلوها المهلة وكل ذلك غرضه القضاء على عنفوان هذا الشعب و حيويته في نضال استمر لقرن كامل من الزمان من يوم قسّم بلاده وبلاد الشام وزير خارجية بريطانيا السير مارك سايكس ووزير خارجية فرنسا جورجيس بيكو في أيار مايو 1916 بمعاهدة سايكس-بيكو سيئة الصيت وما تلا ذلك من إقطاع فلسطين ليهود العالم بوعد بلفور الشهير ومحاولة إبقاء الوضع في بلاد الشام على ما هو عليه بميزان لا تميل كفته إلّا إلى إسرائيل في كل المحافل وذلك على حساب كل المكونات البشرية و الثقافية والدينية والمذهبية التي تزخر بها بلاد الشام, والتي لم تكن يومًا إلّا عامل قوة لجميع سكانها من عرب وكرد وتركمان ومسلمين و مسيحيين و يهود وشيعة و علويين و دروز وإسماعيلية وباقي المكونات التي هي أكثر من أن تحصى في مقالة قصيرة و لكنها كانت كلها دومًا عوامل إغناء لباقي المكونات.
إن هذه التركيبة التاريخية والجغرافية و البشرية المعقّدة هي أحد الأسباب الهامة وراء إطالة أمد القتل واستحراره في السوريين خلال ثورتهم الفتية.
مئة سنة تقريبًا انقضت وكل منطقة بلاد الشام لا تكاد تخرج من أزمة حتى تدخل في أخرى ما أنهك شعوبها و هدَّ من قوتها ولكن مع ذلك حافظت على حيويتها بل كانت سوريا عام 1952 وبعد ست سنوات على استقلالها عن الاستعمار الفرنسي الدولة الثانية في النمو الاقتصادي في آسيا بعد اليابان وكانت هي المرشحة أن تصبح ماليزيا الشرق الأوسط لو استمرت بذات النمو ولكن مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1963 وإحكام قبضته على مفاصل الدولة, ثم تحولت تلك القبضة عام 1970 إلى قبضة حديدية لا تبقي ولا تذر تركزت بفعل ذلك كل مقومات الدولة بيد نظام عمل على بث الطائفية في مجتمع لم يعرفها من قبل إلا نادرا في أزمات كانت توأد في مهدها بفعل الوعي الشعبي الذي كان التعايش والتراحم الأهلي أبرز سماته.
وبعد حكم النظام لهذا الشعب أربعة عقود بالحديد و النار ومع انقداح ثورات الحرية في ربيع العرب ثار السوريون ضد الاستبداد مثل إخوانهم في تونس و مصر و ليبيا و اليمن لكن مع فارق هو أن هذه الثورات لم تكن لتنتصر على مستبدّيها لولا حبل من الله أولًا ثمّ حبل من الناس. فالتونسيون كان لهم في جيشهم أكبر رديف للنصر والمصريون سارعت أمريكا للإعانة في إزاحة مبارك عن صدورهم بإيعازها للجيش عدم التدخل لصالحه, وليبيا تدخل معها حلف الناتو أما اليمن فنصف الشعب الثائر كان مسلحًا بذات السلاح لدى صالحٍ ورهطه.  أما السوريون فواضح في ثورتهم انقطاع حبل الناس عن دعمهم دعمًا يؤدي لنصرتهم مثل باقي إخوانهم, بل وجدنا أن من إخوانهم الذين انتصروا على مستبديهم بالأمس القريب من ينصح لهم بالتعقل ومحاورة جلّاديهم بينما لازال هو يطالب برأس جلّاده على رؤوس الأشهاد في قمة مكة الكرّمة في ليلة القدر! تلك القمّة التي لم يبق منها بعد أن انفضّ السّامر إلّا قرارًا بتجميد عضوية سوريا في منظمتها فيما تدين وبأشد لغة الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق مسلمي الروهينغا على يد حكومة ميانمار!
ومع اشتداد حلكة الليل المحيق بالشعب السوري وانقطاع الحبال الخارجية كافة بدأ يلوح في الأفق بصيص نور وأمل قد يعينه على تحقيق نصره قريبًا بإذن الله.
ولكن قبل الكلام عن هذا الأمل لابد من الإشارة إلى نقطة هامّة للغاية و هي أنّ المعارضة السورية بكل أطيافها الثورية والعسكرية والسياسية قد درجت مؤخّرا على تحميل إيران "كلّ" قبيحة تجري في سوريا بصيغة أصبحت برأيي مبالغًا فيها. فالجرائم المرتكبة يرتكبها الإيرانيون والطيارون الذين يقصفون المدن والقرى السورية إنما يقودها طيّارون إيرانيون والذبح يقوم به الإيرانيون وهم من يدرب السوريين على ميليشيا على غرار جيش المهدي في العراق. لا شك أنّ إيران داعمة للنظام عسكريًا و ماديٍّا لكن ذلك لا يعني أنها هي التي تقاتل الشعب السوري فمعركة الشعب السوري لازالت مع جلّاده السوري و ليست مع إيران التي ليس من مصلحة الشعب السوري أن تدخل فعلًا في المعركة ضده لأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى تضاعف الضحايا التي قد يصل عددها عند ذلك إلى المليون من الشهداء وخراب ودمار لا قبل لنا به في ظل غياب عربي و دولي عن إحقاق أي حق ولو كلامًا ناهيك عن المساعدة الحقيقية التي تؤدي إلى النصر.
إن النظام في سوريا هو الذي يرتكب الجرائم و ليس بحاجة إلى تدريب من إيران أو حزب الله كي يقوم بها بل لعلّ العكس هو الصحيح فالنظام السوري هو الذي درّب حزب الله وزوده بالسلاح بشهادة حسن نصر الله ذاته والنظام هو الذي صدّر القتل إلى العراق أيام الانفلات الأمني بشهادة المالكي نفسه ولعلّ النظام السوري هو الذي نصح الإيرانيين بكيفية التعامل مع الثورة الإيرانية التي تلت انتخابات الرئاسة عام 2009 من خلال خبرته بالتعامل مع ثورة حماة. إن الكلمة المقيتة "بدّك حريي" التي ترنّ في أذن كل سوري ليس فيها أي عجمة إيرانية أو لهجة لبنانية أو عراقية بل هي سورية صافية لا تخطئها أذن أصغر طفل سوري.
إنّ إقحام إيران في الثورة السورية هو مطلب النظام السوري وليس مطلب الثورة, بل مطلب الثورة هو تذكير إيران دومًا أن تنأى بنفسها عن النظام وتفك الارتباط به لأنّ في ذلك مصلحتها فالثورة منتصرة في آخر المطاف رغم فداحة التضحيات, ولا أظن أنّ إيران ستزج بكل قوتها مع النظام السوري ولكن لها مصالح مثل أي دولة, فهي دولة إقليمية كبيرة ولا أظن أن قيامها يعتمد على استمرارية نظام الأسد بل العكس هو الصحيح. إن ما أبقى النظام في سوريا إلى الآن هو ما تمده به إيران و روسيا من مدد سياسي وعسكري لوجستي, ولو انقطع ذلك المدد لتهاوى النظام بسواعد السوريين وحدهم ودون الحاجة إلى أي معونة من الغرب أو غيرهم. وعكس ذلك صحيح أيضًا. فلو أن الغرب مد السوريين بما يطلبونه من سلاح نوعي فإن إيران وروسيا ستمد النظام بسلاح نوعي ضده, والشعب السوري هو الذي سيدفع الثمن في تلك الحالة بشريًّا و اقتصاديًّا من مستقبله الذي سيرُهن بعد الثورة لمصالح وأجندات دولية مختلفة.
إن إعادة تشكيل منطقة بلاد الشام والعراق بل وتركيا وإيران قد أصبح قاب قوسين أو أدنى بفعل الثورة السورية وحدها. وما يجري اليوم في لبنان هو إرهاصات ذلك و انعكاسه في بلد كان دومًا المرآة السياسية لكل تجاذبات محاور القوة في المنطقة وما خلفها.
لكن إعادة التشكيل هذه لابد فيها من طرف معين يقف على مسافة واحدة من هذه القوى العربية و التركية و الفارسية ولعل خير من يقوم بذلك اليوم هو مصر الثورة ورئيسها الدكتور محمد مرسي خاصة بعد أن أسفرت التغيرات الأخيرة خلال الأسابيع الماضية عن استقرار ثورتها وانحيازها  دون لبس لحقِّ الشعب السوري في الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية.
إن مصر الثورة ليست مصر مبارك, فرغم أن الشعب المصري المتعاطف مع السوريين هو نفسه لم يتغير, لكن مفاصل اتخاذ القرار قد أصبحت اليوم بيد هذا الشعب. وواضح أن القيادة المصرية تريد أن تعيد لمصر اعتبارها  ودورها الرّيادي رغم وجود قوى مصرية وغير مصرية  تحاول معاكسة ذلك, لكن سنن التاريخ أثبتت إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
الرئيس مرسي في قمة مكّة المكرّمة طرح طرحًا مفاده تعاون مصري سعودي تركي إيراني لحل الأزمة السورية  فقد آن الأوان حسب قوله لأن يرحل النظام السوري.
إنّ اجتماع هذه القوى الإقليمية الكبرى على طاولة واحدة و تعاونها لنصرة الشعب السوري و "ترحيل" النظام هو مطلب للثورة السورية, ووجود مصر و السعودية و تركيا على طاولة واحدة مع إيران للضغط عليها بقطع المدد عن النظام السوري هو أيضًا مطلب للثورة السورية.
أعلم أن البعض سيحتج على طرح الرئيس مرسي ولكن على من يحتج أن يقدم البديل مرفقًا بالفاتورة البشرية لهذا البديل. الشهداء في سوريا اليوم تجاوزا ال 25 ألفًا لكن هل يستطيع أن يضمن من يعارض هذا الطرح الذي طرحتْه مصر أن يضمن عدم ازدياد هذا العدد بل وتضاعفه.
إن سوريا موجودة في فضاء جيوسياسي يتعايش فيه العرب والترك والفرس ولن يأتي اليوم الذي تزول فيه أي من هذه القوى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وسوريا هي ركن من أركان هذا الفضاء وليست هامشًا له, يشهد على ذلك التاريخ.
إن ما يجب على المعارضة السورية الآن:
1-      التنسيق بين أجنحتها الثورية والعسكرية والسياسية للتوافق على حد أدنى من المطالب دون أي شق للصف أو تلاعب بالكلمات والألفاظ التي أخرت نصر الثورة وسمحت للنظام بالاختراق تلو الآخر.
2-      اختيار عدد معقول لامبالغة فيه من الممثلين الحقيقيين للثورة من كل أجنحتها اختيارًا يعتمد الكفاءة لأداء المهمة القادمة لا المحاصصة التي أثبتت فشلها في المرحلة السابقة.
3-      مسارعة المعارضة بعد ذلك وبشكل "موَحَّد" للاتصال بالرئاسة المصرية للوقوف على تفاصيل دعوة الرئيس مرسي بل والمساهمة فيها بشكل إيجابي وفعّال لتكون حاضرة في كل التحركات التي ستتمخض عنها هذه الدعوة.
4-      التنسيق بين قوى الثورة السورية الإلكترونية  لتصبّ جهودها على إنجاح المبادرة المصرية عبر صفحاتها على الشبكة العنكبوتية والتويتر والمواقع الإلكترونية.
5-      التنسيق بعد ذلك بين قوى الثورة السورية والمصرية الإلكترونية للتواصل مع الشعب المصري والشعب العربي وقواه المدنية الحية بما يتيح تمتين جبهته التي ستتعرض لمحاولات الاختراق من قوى النظام السوري الإلكترونية والإعلامية.
6-      تشكيل لجنة متابعة مشتركة بين أجنحة المعارضة السورية مهمتها:
أ‌-        متابعة تطورات المبادرة المصرية
ب‌-    تشكيل قوى ضاغطة على الأطراف المشاركة في الدعوة  من مصر والسعودية وتركيا و إيران.
ت‌-    العودة الدورية للشعب السوري لإعلامه بتطورات المبادرة المصرية وإبقاء قواه موحدة في سبيل إنجاحها.

إن مبادرة الرئيس مرسي  قد تكون آخر الآمال قبل خراب البصرة ولا أعني ذلك مثلاً دارجًا ولكن إن خربت سوريا فليس بعد ذلك إلا خراب البصرة!

الجمعة، 6 يوليو 2012

أخطاء الثورة السورية


أخطاء الثورة السورية


إن الكلام عن أخطاء أي ثورة ليس بالأمر الهين لأنّ ذلك قد يفهم منه انتقاصاً من تضحيات ثوارها خاصة إن كانت ثورة مثل الثورة السورية التي ضحى أهلها بالغالي و النفيس في سبيل حريتهم و كرامتهم المهدورة على مدار نصف قرن. لكن تصويب و تقويم الثورت ضرورة لا بد منها لأن التاريخ علمنا أن أي ثورة ممكن أن تنحرف أو تضيع بسبب شراسة الأنظمة التي ثار عليها الناس أو بسبب الثورات المضادة التي تتخفى ثم تعيد إنتاج نفسها في ثوب ثوري لا تلبس أن تنقض به على الثوار فتنهيهم و تعود إلى صدارة المشهد بشكل أشد شراسة من قبل وهذا ما كاد أن يحصل في الثورة المصرية لولا حكمة المصريين وتضحياتهم.
الثورة السورية بإجماع ثوار الربيع العربي أشد الثورات ضراوة وامتاز ثوارها بشجاعة قل نظيرها في تاريخ تلك الثورات. فالسوريون لا يواجهون فقط النظام الذي ثاروا عليه بل دول عظمى تتحكم بمفاصل القرار الدولي تدعم النظام في كل محفل في ظل تخاذل باقي القوى العالمية و نكوصها بشكل عرّى تماما كل المنظومات الأخلاقية التي مافتئت تلك الدول تبيع و تصدر للعالم من حقوق الإنسان في الحرية   والكرامة و السعي نحو السعادة.
مثل باقي الثورات أيضاً ظهرت بعض الأخطاء خلال الثورة السورية  التي سأناقشها خلال مسيرتها من يوم 15 آذار إلى الزمن الحالي  من خلال تحليل مبني على متابعة للثورة في الداخل و الخارج. هذه المناقشة ستكون على ثلاث مستويات:
1-      على مستوى الخطاب
2-      على مستوى المواقع
3-      على مستوى الرمز   

أولًا- على مستوى الخطاب:
شهدت الثورة السورية تطورا لخطابها مر عبرثلاث مراحل:
المرحلة الأولى شهر العسل الوطني: من الانطلاقة إلى دخول الجيش درعا في الأسبوع الخامس للثورة
المرحلة الثانية : من دخول الجيش درعا إلى أغنية القاشوش 27-6- 2011
المرحلة الثالثة: من أغنية القاشوش إلى اليوم
المرحلة الأولى:
تميزت باندلاع الثورة وبدء تشكل خطابها مستمدا من خطاب ثوري عربي محيط تشكل في بوتقة الربيع العربي و انتقل من دولة لأخرى مع المحافظة على خصوصية الخطاب المحلي لكل دولة وتدرجه سريعا لخطاب شامل ينادي: "الشعب يريد إسقاط النظام"
تميزت أيضا هذه المرحلة ببدء الخطاب "الثوري" على الفضائيات من الداخل و الخارج و تميز خطاب الداخل بالاعتدال و انخفاض السقف مقابل الخارج مرتفع السقف ويميل للحدية نوعا ما.
هذا الخطاب بدأ بتشكيل رموز و نجوم الثورة السورية ومعظم هؤلاء من الخارج لارتفاع سقف الخطاب.
في تلك الفترة لم يكن هناك فرق عند السوريين بين معارض و آخر فالكل معارض و ثوري. الكل كان ينتظر من يتكلم من الداخل رغم سوء الاتصالات. لم يكن هناك تخوين. كل المعارضين كانوا أبطالا ثم ما لبث أن تغير تصنيفهم مع تغير الخطاب و الممارسة لاحقاً.
خلال تلك الفترة كانت القمع يتزايد من جمعة إلى التي تليها و مع هذا التزايد للقمع ارتفعت وتيرة خطاب الخارج بينما اتجه خطاب الداخل إلى لوم من يظنون سبب المأساة و بالتحديد رامي مخلوف أي "العامل الاقتصادي" ما أدى إلى سلسلة من الإجراءات التي اتخذها النظام فغير الوزارة و استقال رامي مخلوف وانتقل للعمل الخيري.
المرحلة الثانية:
مع بقاء الحل الأمني وارتفاع حدته ووصوله في ذلك الوقت إلى الذروة التي تمثلت بدخول الجيش إلى درعا في الأسبوع الخامس بدأ الداخل و الخارج بمحاولة تطوير الخطاب عبر مبادرات لحل الأزمة.
تسارعت وتيرة المبادرات فظهرت مبادرات داخلية و أخرى خارجية تميزت باختلاف السقف تماما كالخطاب الإعلامي الذي ميز المرحلة الأولى مع بدء فرز للمعارضة حسب الجملة الأولى لأي منها: "بسم الله أم بسم الوطن" فبدأت بذلك ملامح التيار الإسلامي و العلماني بالتبلور مع كتابة أول مبادرة ثم ما تلاها من مبادرات. هذه المبادرات كانت هي التي ستضع مقترحا لحل الأزمة كل حسب روآه.
فبدأت بذلك تظهر بوادر الفرقة  بين مكونات المعارضة  مع  بعضها من جهة و بين المعارضة  و التأييد من جهة أخرى وبدأ ظهور نوع من التمايز والانتماء إلى مكونات المعارضة بشقيها الكبيرين إسلامي و علماني مالبث أن أصبح هذا التمايز نوعا من التجاذب السياسي وصل في بعض الأحيان إلى نوع من التدافع.
بدا الحراك على مستوى الداخل محصنا ضد هذه التجاذبات في البداية واستمر بخطابه المركز على أمرين: الحرية والوضع الاقتصادي وكان رمز تلك المرحلة أغنية القاشوش بجملتيها الشهيرتين: "الحرية صارت ع الباب" و "لسع كل فترة حرامي شاليش وماهر ورامي سرقوا إخواتي و اعمامي" والحل للمشكلتين بالجملة الأشهر للقاشوش: "ارحل ارحل يا بشار"
هذه الأنشودة لامست ألف وتر حساس عند الشعب و أصبحت نشيده الوطني بعد أن انقلب حماة الديار على الوليد والرشيد.

المرحلة الثالثة:
بعد ذلك وبعد العسف الأمني للجيش و الأمن بالشعب وقتل القاشوش و الرموز الكبرى للثورة دخل الخطاب حالة كسر العظم و نقطة اللارجوع مع النظام تجلت برفع شعار "الشعب يريد إعدام الرئيس" فظهر تغير واضح في الخطاب الثوري فبعد بعد خطاب ثوري رائع في بداية الثورة (سلمية سلمية, واحد واحد واحد الشعب السوري واحد, حرية للأبد غصبا عنك يا اسد) فجأة انحرف الخطاب إلى خطاب لعن و شتم أصبح أنشودة الثورة (يلعن روحك ياحافظ) خلافا مثلا للثورة الليبية التي حافظت على شعار مجمع واحد (دم الشهداء مايمشيش هبا)  هذا الخطاب منع من تطوير خطاب ثوري في مواجهة خطاب النظام الذي تمحور منذ البداية و بشكل مركز حول نقطتين لا ثالث لهما:
1.      المؤامرة الكونية على سوريا
2.      العصابات الإرهابية المسلحة
بخلاف الثورة الليبية فقد عانت الثورة السورية من غياب العقل المفكر الذي يصوغ ويوجه خطابها السياسي والاستراتيجي ويرد به على خطاب النظام. (كان يتعاقب على الإعلام ثلة من المفكرين الليبيين يشرحون قصتهم للناس شرحا لا لطمية فيه بالإضافة إلى العميد الركن المتقاعد الشهير صفوت الزيات الذي كان يحلل الأوضاع عسكريا على الأرض)

ثانياً: على مستوى المواقع:
الثورة هدف متحرك سريع الحركة على مستوى الوقائع و الأشخاص:
ذلك أن ماهو مقبول  ومؤثر اليوم قد يصبح بلا معنى بعد زمن قليل  ومثال ذلك بيان علماء سوريا في بداية الثورة الذي كتبه ووقعه أكثر من عشرة من كبار العلماء المسلمين داخل سوريا.  لم يظهر البيان إلى العلن بسبب تهديدات الأمن للعلماء. ورغم تسرب نسخة منه إلى يد عدد محدود من الأشخاص إلا انه لم يتسرب للإعلام بدعوى "إننا مؤتمنون على البيان"
عندما تسرب البيان بعد أسابيع أصبح بلا أي معنى لأنه لم يعد يعكس الواقع الراهن للثورة.
تغير مواقع المعارضة:
ظهر جليا منذ البداية تخبط المعارضة الخارجية  في إدارة دفة الصراع في الخارج وانتقال عدوى ذلك إلى أي معارض من الداخل التحق بالخارج فيما بعد.
ومقارنة بسيطة بالثورة الليبية التي استطاعت إفراز مجلس انتقالي ثابت من 30 عضوا يمثلون كافة مكونات النسيج الليبي على رأسه 9 أعضاء لمجلس وطني انتقالي قاد السفينة الليبية للإطاحة بالقذافي
فثبات الأشخاص و ثبات الهدف ضرورة أساسية تسمح للجميع بالتعامل مع المعارضة بارتياح.
أما في الثورة السورية فقد أدّى عدم ثبات مواقع المعارضة خاصة الخارجية منها على تشويش المتابع للثورة وكان لهذا أثر سلبي من ناحية شحّ الإنجاز وسهولة الاختراق لاختلاف المشهد على  المعارض المتنقل بين المناصب. بينما أبدعت الثورة السورية في مواطن أخرى تميزت بالثبات الذي ساعد على الإنجاز الثوري في مستويات مختلفة  وكانت أكثر أذرع الثورة ثباتا وإنجازا هي:
الثابت الأول: الذراع الطبي والذراع الإغاثي لأن القائمين عليهما من الاختصاصيين الذين لا تغير في مواقعهم والذين سارعوا منذ بداية الثورة إلى تنظيم أنفسهم بسرعة بل و إعادة كتابة لوائحهم الداخلية بما يضمن نصرة الثورة دون أي عائق.  
الثابت الثاني: الذراع العسكري الذي و إن تأخر حتى نظم صفوفه و لكن ثبات مواقعه مكنه من أن يكون مغناطيسا للانشقاقات ومن ثم التنظيم. 
الثابت الثالث: هو الحراك الثوري الذي سارع منذ البداية إلى تنظيم نفسه ضمن ثلاث أو أربع كتل ضخمة: الهيئة العامة للثورة السورية ولجان التنسيق المحلية و المجلس الأعلى للثورة السورية.
وعى النظام هذا الثبات فحاول ضربه بكل ما أوتي من قوة. فأصبحت لفظة طبيب وجيش حر وثائر توازي الاعتقال الذي كان يفضي إلى الإعدام الميداني في كثير من الأحيان.
أدى عدم الثبات  في مواقع المعارضة السياسية  أيضا الى عدم القدرة على الاستفادة  من أخطاء النظام بسبب انشغالها بتنظيم نفسها. وأوضح مثال على ذلك عدم الاستفادة من فضيحة الايميلات الرئاسية المسربة مثال ذلك قبول شهرزاد الجعفري في جامعة كولومبيا في نيويورك اعتمادا على توصية للصحفية الشهيرة باربرا والترز. بدلا من أن تستفيد المعارضة السياسية من هذا الخبر فتخترق الجامعة سياسياً عبر المطالبة العادلة بطرد المستشارة الإعلامية للرئيس من الجامعة نجد أن من يقوم بذلك هم مجموعة من المغتربين الذين تحركوا على الانترنت عبر العرائض الموجهة للجامعة.

ثالثاً: على مستوى الرمز:

1-  الرمز الشهيد:
رغم وجود بعض الرموز التي تشكلت خلال الثورة مثل الشهيد غياث مطر و حمزة الخطيب و تامر الشرعي وهاجر الخطيب إلا أن معظم شهداء و معتقلي الثورة السورية لم  أصبحوا أرقاما منسية في لحودهم أو سجونهم.
إن شهداء الثورة السورية  يجب أن تصبح قصصاً تحكى على مر الأجيال وهذا ما أبدعت به الثورة الفلسطينية من قبل حيث أصبحت قصص أبطالها زاداً روحياً لأجيال الفلسطينيين جيلاً بعد جيل وما قصة شهداء البراق محمد جمجوم و فؤاد حجازي و عطا الزير الذين استشهدوا دفاعاً عن حائط البراق المقدس عام 1930 على أيدي البريطانيين إلا مثالاُ على حياة الثورة لما يقارب القرن من الزمان في قلوب الفلسطينيين.

2-  الرمز الحي:
إن الرموز الحية لها أثر كبير في الدفع بالثورات إلى مستويات متقدمة سواء على المستوى الداخلي أو العالمي في محافل مختلفة حسب انتماء الرمز وما قصة المناضل الفلسطيني لاعب منتخب فلسطين لكرة القدم محمود سرسك إلا مثال على تأثير الرمز تحركت الفيفا والمحافل الدولية لكرة القدم بقوة ما أسفر عن إطلاق سراحه بعد شهر من الآن. وقصة الصبي القناص الروسي خلال الحرب العالمية الثانية الذي أصبح أسطورة تمد الشعب بالدعم المعنوي خلال الحصار النازي لموسكو مثال أيضاً على ضرورة صناعة الرموز في حياة الثورات.