الجمعة، 4 فبراير 2011

الحقيقة من ميدان التحرير

الحقيقة من ميدان التحرير

د. طارق أبو غزالة

4 فبراير 2011

أكتب هذه الكلمات و تاريخ جديد يولد في مصر.

زيارتي الأولى لمصر كانت قبل عام في فبراير 2010 لإعطاء دورة التفكير الموضوعي في معهد التدريب القومي بدعوة من مؤسسة جسور و رئيسها المهندس فاضل سليمان المرابط في ميدان التحرير و أنا أكتب هذه الكلمات.

إعطاء الدورات زمن الرخاء أمر جميل تتخلله الابتسامات و الدعابات و النكات و ضرب الأمثلة و التوقف للتفكيرفي سؤال صعب يسألك إياه أحد المشاركين لتجيبه على مكث دون ضغوط. يومها اعترفت أن استجابة المصريين للدورة كانت عشر أضعاف الاستجابة لها في أي مكان آخر أعطيت فيه الدورة. منذ ذلك اليوم أصبحت على تواصل شبه دائم ويومي مع مصر الحبيبة من خلال أولئك الشباب يرسلون إليّ أسئلتهم عبر الإيميل و الفيس بوك لأردّ عليها حسب توافر الوقت. لم يخطر في بالي يوماً أن أحبابي في مصر سيسألوني السؤال الأهم في حياتي بعد عام واحد على زيارتي الأولى لمصر وأن السؤال لن يأتي من مدرجات و كراسي قاعات المحاضرات بل من ميدان التحرير. دكتور طارق ماذا الآن؟ كيف نفكر بشكل موضوعي من ميدان التحرير؟ البعض يتهمنا بأننا خربنا مصر. بعضهم يطلب منا أن نتوقف عن التظاهر و مطالبتنا برحيل الرئيس. نرجوك ماذا نفعل؟ كيف نفكر بشكل موضوعي في الخطوة التالية؟ الأمور مشوشة جدا في أذهاننا.

أعترف أولاً أنني إذ أحاول الإجابة على أسئلة أحبابي في مصر فإن إجابتي لن تكون إجابة رمادية كما هي عادة دورات التفكير الموضوعي التي تحاول أن تدرس أي مشكلة لتصل إلى الحقيقة لأنني سأعتبر أن شباب ميدان التحرير قد وصلوا إلى الحقيقة بعد سنوات من البحث عنها. بل أقول أن هذه الحقيقة بدأت خيوطها بالانبلاج غرب مصر في تونس منذ بضعة اسابيع و الآن اكتملت الصورة في مصر. هذه الحقيقة هي أن هناك صراعاً بين الخير و الشر يجري في ميدان التحرير و ليس من الصعوبة بمكان أن نعرف من هم أصحاب الخير من شباب مصر الذين لا يريدون إلّا حرية بلدهم من شخص حكمهم لفترة تزيد على فترة حياتهم على هذا الكوكب. يريدون وجها جديدا يفهمهم و يرون فيه كل قيم الخير التي تعلموها في مدرسة الحياة. الحقيقة أصبحت واضحة رغم محاولة الممسكين بتلابيب الحكم أن يجعلوا الأمر يبدو و كأنه في منطقة الرمادي و أنت هناك أمور غائبة عن الطائشين من الشباب و أن عقلاء مصر وشيوخها من أمثال هامان و قارون هم من يفهم فقط كل المتغيرات العالمية و أن خبرة هؤلاء الشباب "البسيطة" لا تؤهلهم لفهم ما يجري. ولعمري هذا هو مربط الفرس و هو الاستخفاف بفهم و عقل هؤلاء الشباب!

و الحقيقة أن الأمر عكس ذلك تماماً فهؤلاء الشباب أصبح من الواضح للجميع أنهم هم من يفهم الواقع على حقيقته رغم ضغط آلة الإعلام المصرية الهائل.

ماهي إذاً هذه الحقيقة؟ قبل أن أتكلم عن هذه الحقيقة أود أن أعود للوراء قليلا و الفرنسيون يثورون ضد لويس السادس عشرفتتساءل زوجته ماري أنطوانيت عن سبب الثورة فيجيبها أحد "الحكماء" موضحاً "هم لايجدون الخبز مولاتي". فيأتي جوابها مستغرباً "فليأكلوا إذا الكاتو" هذه الإجابة المتعجرفة التي مسّت كرامة الفرنسيين في الصميم هي التي أطاحت بعرش الملكة وليس جوعهم ولسان حالهم يقول "نحن الفرنسيين نتكلم عن الثورة فتطلب منا الملكة أن نأكل الكاتو. الشعوب عادة صبرها طويل جميل على حكامها فهي لا تريد الخروج عليهم صباح مساء و لكن متى ما وصل الأمر إلى سحق كرامة الإنسان و أدار الحاكم وجهه بقرف عن شعبه فليس للذلك الشعب إلّا أن يمسك بالحاكم و يلقي به برمية واحدة إلى مزبلة التاريخ.

الشباب المصري اليوم يعيش في وجدانه بين صورتين. صورة يرسمها له الآباء و الأجداد عن عزّ مصر قبل بضع عقود مصر يوم أن إذا ابتسمت مصر ابتسم العرب و إذا توعدت مصر ارتعدت فرائص المتوعَّدين و إذا علّمت مصر استمع المتعلمون بكل احترام و إذا غنت مصر طرب العرب من المحيط إلى الخليج و إذا حجت مصر إلى مكة استقبل الحجّاج المحمل المصري , وإذا عطست مصر قال لها المسلمون في كل مكان "يرحمك الله يا مصر". يوم كان كل طفل عربي غير مصري يتكلم اللهجة المصرية المحببة ليدل على رقيه و فهمه تماماً كما يتكلم أطفالنا اليوم بلغة الانكليز ليدلوا على مكانة اجتماعية معينة.

صورة عز و إباء يعيشها كل مصري في خياله ووجدانه و روحه و أحلامه حتى إذا فاق من حلمه و عاد إلى الواقع وجده غير الحلم الجميل. وجد عشرات الملايين من المصريين و قد سلب فرعون أحلامهم و كرامتهم فأصبح المصريون في العالم كالأيتام على موائد اللئام وكل ذنبهم أن صبرهم طويل جميل وهذا لعمري خلق الكرام خلق الأنبياء و الرسل العظام إذ يهينهم قومهم فلا يزيد صدرهم إلا اتساعاً. كل ما يريده المصريون اليوم هو يوم يفيقون فيه من حلم العزة الجميل ليجدوا أنفسهم في واقع عزيز كالحلم ذاته. و ليس من سبيل إلى ذلك إلّا سبيل واحد و هو إلقاء من كان السبب في إهانتهم في مزبلة صغيرة في إحدى ثنايا التاريخ ثم إغلاق الغطاء على تلك المزبلة و نسيانها.

الحقيقة هي أن المصريين تعرضوا خلال الأيام القليلة الماضية إلى ضغوط هائلة من الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب كي لا يلقوا بفرعون إلى المزبلة وأن فرعون مسكين و مريض و يريد أن يعيش آخر أيامه في مصر. يا أيها المصريون. اليس لديكم شفقة؟ لماذا تصرّون على فعلتكم هذه؟ لماذا تخربون بيوتكم بايديكم؟

مواجهة الحقيقة و التعامل معها أصعب بكثير من الوصول إليها. ولكن متى ما وصلنا إلى الحقيقة لا بد من التعامل معها بشجاعة.

والآن جاء دور مواجهة الحقيقة بعد أن وصل إليها الشباب المصري. الحقيقة هي أن الشباب المصري صاحب النفس الطويل يريد أن يفيق من حلم العزة إلى واقع العزة.

لو استجاب الشباب لدعوات "المتريثين" أن ما حدث في تونس لا يمكن أن يتكرر في مصر و هو "كلام فارغ" لكان ذلك الشباب مازال ينام في العسل و غيره يأكل العسل. ولو استجاب شباب مصر بعد أن بدأ يفيق على واقع عزيز لدعوات "الحريصين" أن اذهبوا للبيت, لما حصل على التنازل تلو التنازل من أولئك العقلاء. ولو تنازل الشباب اليوم فلن يحصلوا على أي شيء غداً.

الحقيقة أن كل هؤلاء العقلاء موجودون في مكان واحد هو مسكن الرئيس. ومن لا يصدق فيليقرأ كلام كريستيان أمانبور الصحفية الكبيرة في الأي بي سي نيوز إذا تقول بعد أن وصلت لمقابلة السيد نائب الرئيس وبينما هم يستعدون للمقابلة سألت إن كان بالإمكان مقابلة الرئيس. و خلال دقائق أُخذت إلى غرفة مجاورة فإذا الرئيس يجلس و بجانبه نجله. و أجرت المقابلة التي صرح فيها الرئيس أن الكيل قد طفح به من شؤون الرئاسة و يريد أن يستقيل ولكنه يخاف أن تشيع الفوضى في مصر. القيادة الآن كلها محشورة في مسكن الرئيس بينما أحرار مصر ينتشرون في الباقي من أرض مصر العظيمة. تريد القيادة أن توهم الناس أنها في كل مكان و لكن ذلك الزمان ولى فالمصريون الآن هم الذين في كل مكان. بل أقول أكثر من ذلك. إن هذه القيادة الآن منقسمة ولكنهم يخفون ذلك و هذه حال الطغاة في لحظات النزع الأخير كما كانت حال فرعون حين ظهر الحق على يد موسى "فتنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى" طه 62.

إن الحقيقة أن العقلاء كلهم الآن يرتعدون من شباب مصر و ليس العكس.

اثبتوا يا شباب فالحقيقة واضحة. أنتم طلاب حق و لستم متسولين. الحق لا يُستجدى. لا تقفوا حتى تعودوا أحراراً.

و رحم الله أمير الشعراء شوقي إذ يقول:

بلادٌ مـاتَ فتيتهـا لتحيـا وزالوا دونَ قومهمُ ليبقـوا

وحُررتِ الشعوبُ على قَناها فكيـف على قَنَاها تُسترَقُّ؟

وللأوطـانِ في دمِ كلِّ حُرٍّ يدٌ سلفت ودينٌ مستـحقُّ

ففي القتلى لأجيالٍ حيـاةٌ وفي الأسرى فِدىً لهُمُ وعتقُ

وللحريةِ الحمـراءِ بـابٌ بكل يدٍ مضرَّجـَةٍ يُـدقُّ

.