الأحد، 30 مارس 2014

المواطن أبو طالب في المدينة المنورة

د. طارق أبو غزالة

"أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه"
حديث بديع للرسول الكريم يتجاوز مسألة التكفير إلى مسألة أعمق منها وهي الأمن الفكري للأفراد. فليس أقسى على الإنسان أن يتم اتهامه بتهمة خطيرة تجعله خارجا عن النسيج الواقي للأمة.
ففي صدر الإسلام كانت مسألة الكفر والإيمان إحدى المسائل الفاصلة التي تميز بين المؤمنين وغيرهم. لكن هذا التمايز كان غرضه الحفاظ على نسيج الجماعة المؤمنة من ضربات قريش القاصمة التي كادت تطيح بهذه الجماعة الفتية لولا صلابة إيمانها. ومع ذلك فقد اتسعت الجماعة المؤمنة لغير المؤمنين رغم أن دين هؤلاء كان على دين قريش وأولهم أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن وغير المؤمن قد ينتميان للأمة لكن ليس الانتماء هنا رهنا بكفر أو إيمان لكنه رهن بالولاء لهذه الأمة بكل مقوماتها وكل أفرادها. 
ولعل هذا السبب ذاته هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشيح بوجهه عن وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه رغم أنه آمن ورغم أن الإسلام يجبُّ ما قبله, وكأن النبي يقول له, نعم دخلت الإسلام مؤمنا كامل الحقوق لكنك مهما يكن دخلته ناقص الولاء للأمة وليس لك علينا نفس الحقوق القلبية كما هي لغيرك . ولعله نفس السبب الذي فهمه الفاروق عمر تجاه قاتل أخيه زيداً وقد كان رضى الله عنه شديد الحب لأخيه زيد بن الخطاب, فلما قُتل زيد دخل القاتل في الإسلام.
فقال له عُمر بن الخطاب : والله إني أكرهك كراهية الاْرض للدم المسفوح.
فقال له الرجل : اْيمنعني هذا حقاً من حقوق الإسلام. 
فقال له عُمر: لا.
فقال الرجل: ما لي ولحبك, إنما تبكي على الحب النساء. 
فقال له عمر: لا تُرني وجهك أمامي في طريق.

في هذا السياق عاشت أمم كثيرة في ظل الإسلام ولم تثر تلك الأمم على الحكام إلا عندما ساموها الخسف والظلم والعنت, وميزوا بين طوائفها وأعراقها فقرّبوا أمما وأبعدوا آخرين, فكان من جراء ذلك تفتت تدريجي بطيء ما لبث أن تسارع حتى انكشفت الدولة أمام الغزاة فدخلوا محتلين. تكرر حدوث ذلك مع تكرار الظلم وفي كل مرة كانت الأمة تعود عقودا للوراء, آخرها كان عندما احتلت أمريكا العراق وقبل ذلك معاهدة سايكس بيكو وتقسيم المشرق العربي ووضعه تحت الانتداب الاستعماري

في كل هذه الكوارث كانت قضية التفرقة والتمييز بين أبناء الأمة هي الحلقة الأضعف التي تدخل منها باقي القوى العالمية إلى حمى البلاد. 
إن التمييز بين أبناء الدولة الواحدة واتهام فئة منهم اتهامات تخوينية تخرجهم عن الانتماء لها هو أخطر ما تواجهه الدول, وقد يعصف بها وينهيها إن لم يتدارك حكماؤها ذلك ويعيدوا الأمور إلى نصابها. حدث ذلك الأمر أيام الخليفة المأمون بقصة خلق القرآن والتي امتدت لأيام الخليفة الواثق والتي اصبحت هي معيار الانتماء للأمة بعوامها وعلمائها.  ثم كان أن انتهت تلك الفتنة بمناظرة بسيطة للشيخ الآذرمي مع أحمد بن أبي دؤاد. وكانت تلك الفتنة التي استمرت قرابة ثلاثة عقود من أهم العوامل التي أضعفت الدولة العباسية وغيرت منحنى صعودها إلى هبوط تدريجي ما لبث أن تسارع حتى أودى بالدولة.
.  
أما في التاريخ الحديث لغير المسلمين فتبرز قصة السيناتور جوزيف مكارثي الذي سلط تهمة الانتماء للشيوعية على رقاب الأمريكيين في منتصف القرن لعشرين والتي أدت في مرحلة من مراحلها أن ينتحر فقط من يرد اسمه في لوائح اتهام مكارثي.
هذه الأزمة كادت أيضا أن تودي بالنسيج الاجتماعي لأمريكا لولا مداخلة قصيرة لجوزيف ويلش محامي وزارة الدفاع في جلسة استماع في الكونغرس أنهت المكارثية وطوت صفحتها. ولو لم تكن أمريكا في منتهى قوتها حينئذ لكانت هذه المحنة كافية لتغير منحنى صعودها. ولعل ما جرى أيام جورج بوش الابن من تمييز ضد المسلمين هو بداية لتغير هذا المنحنى وبدء انحدار المنحنى البياني لأمريكا.

واليوم تمارس نفس العقلية المكارثية والمعتزلية جريمة التعريض بشريحة واسعة من المجتمع في عالمنا العربي على مستويين متقابلين.
المستوى الأول تمارسه الدولة الاستبدادية العميقة ضد الذين ثاروا عليها في ثورات الربيع العربي. فاجترحت تهمة الإرهاب بعد أن استعارتها من جورج دبليو بوش واتهمت بها كل من لا يوافقها وجعلت من هذه التهمة ذريعة للقتل والسجن والتشريد والنفي والاغتصاب. 
أما الطرف المقابل لذلك فهو التكفير لكل مخالف في الرأي وإخراجه من الملة وجعل ذلك ذريعة لإهدار دمه وحز رأسه وتمثل القاعدة وتفريعاها مثل داعش وغيرها النموذج الحي لذلك. ومابين هذين الفريقين المتقابلين  طُحنت جماهير غفيرة وجدت نفسها إما إرهابية أو كافرة بينما كان جل حلمها أن تحيا دون أي قيود تنعم بحريتها التي وهبها الله لها.
واليوم أيضا تواجه الجماهير التي خرجت تطالب بحريتها أقسى اختبار لها خاصة في مصر وسوريا. ولعل الخطاب الثوري للثورتين لم يكن جامعا لكل طوائف المجتمع ما أخر النصر في سوريا, ونكص به إلى الوراء في مصر.
ففي مصر ورغم أن "أفعال" الرئيس مرسي كانت تجميعية على المستوى المحلي والعربي والاقليمي, إلا أن خطاباته لم توح بذلك أبدا, بل ضربت على وتر حساس عند المصريين كلما خاطبهم الرئيس بمقولة "أهلي وعشيرتي" وكأن المصريين أعضاء في أسرة في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين. في مقابل ذلك, كان الخطاب التجميعي للرئيس عبد الناصر "يا جماهير الأمة العربية من المحيط إلى الخليج" يلهب الشعوب العربية رغم أن أفعاله كانت إقصائية واستعلائية لدرجة كبيرة, الأمر الذي حدا بالسوريين مثلا  إلى الانفصال عام 1961 بعد أقل من ثلاث سنوات على الوحدة مع مصر بسبب الفوقية التي لمسوها من عبد الناصر ونظامه. 
أما في سوريا فرغم تضحيات السوريين الهائلة للحصول على حريتهم في وجه نظام استبدادي,  فقد تفرقت قوى المعارضة في حارة كل مين إيدو إلو على كل المستويات السياسية والعسكرية والإغاثية والإعلامية. فخسر السوريون تعاطف العالم معهم , فيما استطاع النظام السوري الحفاظ على صورة تجميعية وخطاب موحد لكافة السوريين حافظ بها على رصيد ولو ضئيل مكنه من الاستمرار لثلاث سنوات رغم كل ما عصف به من فضائح.

وفي المقابل تظهر قوة الخطاب التجميعي على أعلى المستويات في الغرب. ففي أمريكا مثلا نرى كيف ألهب السناتور باراك أوباما حماسة الأمريكيين بخطابه عام 2004 خلال مؤتمر الحزب الديموقراطي لترشيح السيناتور جون كيري لرئاسة أمريكا , حيث كان الاستقطاب والانقسام الشعبي على أشده بين الأمريكيين حين خاطبهم قائلاً: لا يوجد هناك الولايات الحمراء الأمريكية والولايات الزرقاء الأمريكية -في إشارة إلى لون كل من الحزب الجمهوري والديموقراطي- لكن هناك الولايات المتحدة الأمريكية, الأمر الذي ولّد موجة شعبية عارمة لم تستقر إلّا وقد نصّبت أوباما على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض خلال أربع سنوات. لا يعني ذلك أن خطابا تجميعيا واحدا لرئيس يمكن أن يخرج دولة من مأزقها, لكن خطابا تشتيتيا واحدا لرئيس يمكن أن يودي بها إلى التهلكة.


إن الحفاظ على الوحدة الوطنية لكافة السوريين ضرورة لا بد منها في عالم اليوم وإلا كانت النتيجة مزيدا من التقسيم حسب الخطوط القبلية والإثنية والعرقية والدينية. يظهر ذلك جليا في خرائط تقسيم سوريا التي بدأت تنتشر حسب حدود رسمت تبعا للانتماء الإثني أو الديني. 
آن الأوان لهذا الشعب أن يعلم لو أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى يوم الهجرة وهاجر إلى المدينة لاستمر اعتباره من هذه الأمة ولو بقي على كفره, لأن الله قد كفل له حرية الإيمان أو الكفر به ولم يجعل هذا الإيمان هو مقياس الولاء للأمة.