الأحد، 13 سبتمبر 2009

سارقو الوقت

الدكتور طارق أبو غزالة

سارقو الوقت

الفيديو كليب في قفص الاتهام

كثيرة هي الأمور التي تندرج في لائحة المتهمين بسرقة الوقت, ولكن على ما يبدو فإن الفيديو كليب يكاد يتصدر تلك اللائحة, ويكون بحق من أخطر وأعتى سارقي الوقت في زماننا. إن الفيديو كليب هو لحظات من عمر كــــل واحد فينا صممت بدقة و تقنية عالية ولهدفٍ محدد, ولسبب ما فإن هذه اللحظات - التي قلما يعيرها الواحد اهتماماً, أو يحتسبها من وقته الذي يمضي بلا عودة – قد تحولت إلى خطرٍ حقيقي يهدد الأمة في أهم مصادر ثروتها وهو الشباب, ويخدم الهدف الذي صمم من أجله. فما هو هذا الهدف ؟

إن مشكلة الفيديو كليب وتأثيره الاجتماعي في شريحة الشباب خاصة ، قد حيّرت كثيرين ممن يحرصون على هذا الشباب وعلى النسيج الاجتماعي الذي يشكله .

ولكن هذه المشكلة بنظري لم تشخص تشخيصاً دقيقاً, فكثير ممن عادى الفيديو كليب وهو محق بهذه العداوة , عاداه لأنه مدعاة لإثارة الغرائز والشهوات وانحرافٌ عن جادة العفاف والطهر لما فيه من خلاعة وابتذال وعرض لمفاتن العورات التي هي بحق سهم من سهام إبليس . ولكن هل هذا هو التأثير الوحيد والأخطر للفيديو كليب؟ هل هو حقاً هذا التبذل والعري ؟ هل هو حقاً إثارة الشهوات ؟

برأيي إن هذه الأسباب أعلاه ما هي إلا قمة جبل الجليد والمخفي أعظم. إن تأثير الفيديو كليب المدمر لا ينحصر في هذه الأمور فقط , ولكن يتجاوزها إلى ما هو أهم.

فلنناقش الفيديو كليب مناقشة موضوعية هادئة بعيدة عن التعصب والهوى .

أولاً : - من هي الشريحة التي ينتج الفيديو كليب لأجلها ؟

إنها لاشك شريحة الشباب بشكل عام والشباب هنا الشباب والشابات معاً . هذه الشريحة أعمارها تبدأ من سن البلوغ ولعلها تنتهي في أواخر العشرينات . هذا السن هو سن بناء الأمم ففيه يتحصل الشاب أو الفتاة على معارف ومهارات أساسية تؤهلهم فيما بعد لدخول ميدان العمل والكسب, وتؤهلهم لدخول حلبة التنافس الشريف من اجل بناء الأوطان وعمرانها. وهو سن يكون فيه طموح الإنسان عالياً بأن يرتقي في درجات النجاح الاجتماعي. ففي هذا السن يتحصل الشاب والشابة على الشهادة الإعدادية فالثانوية فالشهادة الجامعية والتعليم العالي, او في هذا السن يتحصل الشاب والشابة على مهنة تعين على التكسب, فما علاقة الفيديو كليب بكل ما سبق وما هو تأثير الفيديو كليب على كل ذلك .

ثانياً : - ما هي المعاني التي يدور حولها الفيديو كليب ؟

إن من يحلل معاني الفيديو يجدها تدور حول فكرة واحدة: شاب يتحدث عن فتاة أو فتاة تتحدث عن شاب . ولكن القصة لا تقف هنا . فهناك خلفية للفيديو كليب تدور كلها في الخيال .

فهذا الحديث الغزلي يدور في السيارات الفارهة أو القصور المنيفة أو الزوارق المشرعة أو الحدائق الغناء بوجود القيثارات والألوان والظلال والخيالات التي تسرح بخيال الشاب والشابة إلى فضاءات تتجاوز واقعه وتحلق به في عالم الأحلام الوردية مع جوقة من أجمل الفتيات اللابسات للبياض من الثياب وهن يرقصن على ظلال الشموع والقيثارات. وتنتقل اللقطات من هذه لتلك ترفع خيال شبابنا من درجة إلى آخرى حتى تصل به وبها إلى شاهق! ثم ينتهي الفيديو كليب! . . . يهوى بعدها الشاب أو الفتاة إلى مكان سحيق فيفيق على واقعه وإذا به عليه أن يذاكر ويدرس ويمتحن ويرى ذلك بعيداً وقد رأاه في الفيديو كليب قريباً. أو يجد نفسه في واقعه وأن عليه أن يستيقظ عند الغداة ليعمل الدقيقة تلو الدقيقة والساعة تلو الساعة كي يتحصل على ما يسد من رمقه فيرى الحلم وقد أصبح بعيد المنال.

ثالثاً : - ما هي آثار الفيديو كليب ؟

إن ما يفعله الفيديو كليب إذاً هو عملية إحباط نفسي موجّه يقوم به بعلم أو دون علم مجموعة لا تتعدى المائة من الشباب والشابات الذين يظهرون في الفيديو كليب على أنهم رمز النجاح للشباب, فيعيش هذا الشاب أو الفتاة نجاحاً وهميّاً كالحلم لا ينزل إلى الواقع, يُضيع معه وقتاً ثميناً هو بأمس الحاجة إليه لبناء مستقبل ناجح فيركن عوضاً عن ذلك إلى القليل الذي يسد رمقه خلال عمله. وتتحقق بذلك مقولة بريدزينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي للرئيس كارتر خلال مؤتمر العولمة في فندق سان هوسيه عام 1995 عندما قال "يجب علينا تفعيل مصطلح ال Titaintement في حياة الشباب", هذا الشباب الذي سوف يقوم بالعمل مقابل أبخس الأجور في زمن العولمة, والمصطلح مشتق من كلمتين tits التي ترمز إلى حلمة الثدي أي الحليب أي الغذاء, و (tainment) المشتقة من كلمة (entertainment ) والتي ترمز إلى التسلية, ويدخل تحتها الفيديو كليب والموسيقى والرياضة والأفلام وتلفزيون الواقع والمسابقات والتي هدفها الأول والأخير سرقة وقت هذا الشاب أو تلك الشابة, هذا الوقت الذي هو أساس النجاح والرقي . ومعنى هذا المصطلح الخطير هو أنه في زمن العولمة و الشركات العابرة للقارات يجب تأمين أمرين للحفاظ على تدفق العمالة الرخيصة من شريحة الشباب : الغذاء و التسلية. الغذاء ضروري لحياة العامل, أما التسلية فضرورية لاستهلاك وقته وإبقائه مكانه دون أن يتطور مما يعني اعتماده على الآخرين للحصول على الغذاء.

إن من يصرف أوقاته في مشاهدة هدف أحرزه لاعب مــــــــا في مكان مــــــــا في محطة فضائية إثر محطة فضائية إنما يضيع شبابه ولا يتسلى. إن الذي يتابع أخبار آخر البطولات الأوروبية والآسيوية والأفريقية والاسيوافريقية واللاتينية وكأس السوبر... إنما يضيع أهداف حياته هدفاً هدفاً وهو ينظر إلى اللاعبين يسجلون أهدافهم بأرجلهم .

إن الشباب هو رأس مال الأمّة من حيث الزمن ومن حيث الصحة ولابد من استغلال رأس المال هذا لبناء الأمّة وعمرانها. لذلك لا بد من حفظ الوقت لهذا الشباب أولاً, وحفظ صحته ثانياً ولا يكون حفظ وقت الشباب بإغراق الفضائيات بهذا الكم الهائل من الفيديو كليب وأخبار الرياضة واستحداث عشرات المحطات المسخرة ليلاً ونهاراً لذلك, بل بالبدء بعملية بناء بطيئة.

وليعلم الشباب أن الحضارات لا تبنى بالطفرات أو الأحلام. بل تبدأ بالاستيقاظ كل يوم للذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل وأداء ذلك على أتمّ وجه, ومشاهدة الحلم وهو يُبنى بالعرق والإجهاد, لا بالحلم والإخلاد.

إن شبابنا اليوم يظن أن شباب الأممم الراقية لا يختلفون عنا من حيث مشاهدتهم لهذه التسالي ولعل ذلك صحيح نوعاً مـــــا, ولكن ما لا يعلمه شبابنا أن شباب الأمم الراقية لا يشغله أمرٌ عن أساسيات حياته, ولعل أبرز ما يميز شباب تلك الأمم الراقية هو اختفاء كثير منهم عن الأنظار لأشهر بل سنوات خلال التحضير لإطروحة الدكتوراه يخرج بعدها أحدهم وقد حصّل علماً تميز به عن أقرانه وأصبح سلعة نادرة تتراكض إليها المؤسسات والشركات والمعاهد والجامعات والحكومات للاستفادة مما حصله من عصارة الوقت الذي أنفقه على نفسه.

وأخيرا ليعلم شبابنا أنهم إنما يبيعون أوقاتهم بثمن بخس لشركات الإعلان, وليقارنوا بين دقيقتهم المجانية في مقابل دقيقة من أنفق وقته على نفسه والتي تقدر بحوالي نصف دولار في بداية التخرج والتي ما تفتأ تزيد في مقابل دقيقة شبابنا المجانية التي لا تفتأ تنقص لاعتماد الثاني على الأول في كل شي .

هذا ما سيميّز الأمم خلال الخمسين سنة القادمة: الاعتماد على النفس و امتلاك الوقت. فالأمم العليا ستكون التي تستهلك أوقات الأمم الدنيا لتصدّر إليها بضائعها الفكرية والمادية فتغير فيها تدريجياً إلى أن تصبح مسخاً فلا هي حافظت على تراثها ولا هي ارتقت كالأمم الأخرى .

وصدق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم إذ قال: " "اليد العليا خير من اليد السفلى".

ولعل سائلاً يسأل: ومـــــــــا ضرر عشر دقائق في اليوم لفيديو كليب على الأفراد؟ ولكن حسابات الأمم لا تحسب حساباً فرديا.ً فلنفرض أن كل شاب وفتاة يشاهدون فيديو كليب واحد مدته عشر دقائق في اليوم فبعملية حسابية بسيطة نجد أن لو شاهد هذا الكليب ثلث الشباب فقط لكان في ذلك إهدار لما محصلته 1000 سنة تراكمية. ويكفي الآن أن تضاعف الرقم إذا كان هؤلاء يشاهدون كليبين, وتضرب الرقم بـ 9 إذا كانت المشاهدة لمباراة واحدة, واضرب 9000 سنة الزمن الضائع على الأمة في مباراة واحدة بـ 48 مباراة لمشاهدة التصفيات الأولى لمسابقة فيها ثماني مجموعات وست فرق في كل مجموعة !!

إن أهم مــا يميز مجتمعاتنا اليوم هو الإهدار الكبير للوقت الذي فيه حياة الأمم.

هذا الإهدار للوقت هو السبب الحقيقي لتخلف أمتنا!

لعل الأوان قد آن كي نفهم فهماً حضاريّاً ما قاله نبي الحياة صلى الله عليه و سلّم:

إغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك, و صحتك قبل سقمك, وفراغك قبل شغلك, وشبابك قبل هرمك, وغناك قبل فقرك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق