د. طارق أبو غزالة
في عام ١٩٨٣ اشتهرت في العالم أغنية أيطالية بعنوان (لايتاليانو) "الإيطالي" لمغنٍّ إيطالي اسمه توتو كوتونيو.
كنت يومها طالبا في الصف الحادي عشر في دمشق، ولعل الصف الحادي عشر أجمل الصفوف فهو يمثل بدء الوعي عند الشباب دون مسؤولية الصف الثاني عشر أي البكالوريا التي تفرز عادة الطلاب إما إلى الجنة أو إلى النار.
لم أعلم معاني الأغنية إلا أن لحنها وصوت المغني كانا جميلين جدا إلى درجة أن الأغنية بقيت في لا وعيي لسنوات طويلة. ربما كان سبب ذلك أيضا تعاطفي ومحبيتي لإيطاليا حين أهدت كأس العالم الذي فازت به لفلسطين مدة أسبوع إبان الغزو الإسرائيلي على لبنان صيف ١٩٨٢.
لم يكن يخطر ببالي بعد كل هذه السنين أنني سأعيد اكتشاف الأغنية لكن ليس بسبب لحنها وصوت المغني فحسب بل بسبب معاني كلماتها التي سهلت الإنترنت كل الوسائل لاستدعاء الماضي ومعانيه الغائبة والتي لولاها لبقينا في جهلنا عن أمور كثيرة من ماضينا.
فبعد أن وجدتُ الأغنية منذ عدة سنوات بالبحث على غوغل استطعت الاستماع إليها مجددا لكن مرة أخرى دون معرفة المعاني. لم تكن الترجمة قد حطت رحالها في غوغل بعد.
واليوم وأثناء تصفحي للإنترنت وجدت الأغنية مرة أخرى لكن هذه المرة وجدتها مع المعاني المترجمة بفصاحة إلى اللغة الإنكليزية وترجمة أخرى رديئة إلى العربية لا تنقل المعنى.
أذهلتني ترجمة الأغنية ومعاني كلماتها. أحسست بشعور كل إيطالي وهو يغنيها. بحثت أكثر عن الأغنية فوجدت معلومات مهمة عن الفن وما يفعله بالشعوب.
كل ذلك أدى إلى استنساخ لحن الأغنية دون المعاني لثقافات أخرى فغناها مغن دانماركي وغناها الثنائي الهندي سانجيف - درشان بنفس أسلوب أغاني الأفلام الهندية حين تشعر أن كل الهند تغني وترقص في الأغنية.
لكن المفاجأة كانت حين استنسخت مغنية مصرية اسمها لارا اسكندر أيضا اللحن دون المعنى وغنت أغنية "تعالوا غنوا معايا" ولست هنا في معرض انتقاد الأغنية بالمصري، لكن من يشاهد ويسمع الأغنية الإيطالية والمسخة المصرية يستطيع أن يفهم الكثير مما حدث في عالمنا العربي اليوم.
نحن اليوم عاجزون حتى عن تقليد المعنى الجميل الآتي من الغرب فحرفّنا هذا الجمال ليصبح أظلم من جحر الضب.
أي حضارة هذه التي تأخذ أجمل ما عند أمة أخرى فلا تستطيع أن تعيد إنتاجه مع المحافظة على المعنى كما هو على الأقل بل تهوي به أسفل سافلين؟ أي عقل هذا الذي يتفتق عن مثل هذه الترهات وكأن المسابقة عنوانها "أن تسفل أكثر"
هل خلت مصر أم الدنيا من عظيم الأشياء التي تستحق أن نغني لها؟ أم أن هؤلاء الذين استوطنوا ظلمات الجب لا يريدون لأحد أن يخرج منه خوف أن يصبح يوسف آخر يعتلي عرش مصر فتأتيه القوافل من الشرق يمن عليها بالنعمة الطيبة،
لن نخرج من الجحر طالما أننا نستدبر النور الذي يأتي من بابه ونحفر أكثر نحو القاع.
أول تباشير الخروج ستبدأ حين نقف عن التنقيب داخل الجحر ثم نستدير خلفا لنرى النور الذي يأتي من الخارج فنزحف نحوه. سيكون الوهج شديدا حينما نخرج من النفق ما قد يدفعنا أن نعود داخله. لكن الصبر على الوهج قليلا سيسمح لنا أن نرى الأشياء تدريجيا لننطلق بعد ذلك في رحلتنا الطويلة.