ألمانيا والأرجنتين؛
معركة الوصفتين والشباب العربي
د. طارق أبو غزالة
رغم أنني لم أحب الفريق
الألماني يوما خاصة منذ تآمره مع النمسا على فريق الجزائر في كأس العالم عام 1982.
لكن الذي يدفعني لتشجيعه هذه المرة شيء مختلف تماما.
إنه ليس وجود لاعبين عربا
ومسلمين ضمن صفوف الفريق رغم أن ذلك يجعلني أميل إليه نوعا ما, لكنه أمر آخر.
إنها رحلة إعداد هذا
الفريق التي تختلف عن باقي الفرق والتي ستؤسس لطريقة جديدة في قوانين إعداد الفرق
كرويا ومهنيا.
الحضيض:
عام 2000 كانت ألمانيا قد
وصلت إلى الحضيض حين خرجت من الدور الأول في تصفيات كأس الأمم الأوروبية فيما كانت
قبل ذلك بسنتين قد أُخرجت على يد كرواتيا من الدور الثاني في كأس العالم.
عندها بدأت حملة مراجعة
كبيرة للمنتخب الألماني الذي كان يعتبر ذروة سنام المجد في ألمانيا إلى عهد قريب.
كان من نتائج هذا
المراجعة أن اتحاد اللعبة وصل إلى وصفتين للحل.
الأولى سحرية تعتمد على
إيجاد اللاعب الأوحد المعجزة ومن ثم الاستثمار فيه ليقود ألمانيا إلى عزها الكروي
مجددا. كانت هذه الفكرة مغرية خاصة أن ألمانيا كانت قد جربتها مرتين ونجحت حين كان
لديها العملاق فرانز باكينباور, ومن بعده كارل هاينز رومينيغة.
لكن سرعان ما صُرِف النظر
عن هذه الوصفة لعلم الألمان أنها مؤقتة إضافة إلى أن أي هزة أو إصابة باللاعب
المعجزة ستطيح بها كليا.
وبدأ العمل والانكباب على
الوصفة الثانية.
فما هي هذه الوصفة
الثانية؟
الوصفة الواقعية
بدأ اتحاد اللعبة
والمسؤولون فيه بتحليل الأسباب الحقيقية لضعف الفريق فوصلوا إلى نتيجة مفادها أن المنتخب الوطني هو انعكاس طبيعي لحالة الدوري الوطني على كل المستويات. حينئذ وضع البوندسليغا خطة محكمة للاستثمار بكافة الأندية من مرحلة الأطفال إلى
الرجال مرورا بالناشئين والشباب خطة محكمة غرضها ليس صناعة نجم استعراضي واحد لكن صناعة اثنين وعشرين نجم حقيقي يعوض واحدهم الآخر أو كما يصف ذلك حاتم الطائي:
إذا مات منا سيد قام بعدهُ نظير له، يغني غناه ويخلفُ
في غضون هذا الإعداد غابت ألمانيا عن إحراز أي لقب يذكر فيما احتكرت الأندية الإسبانية
والإنكليزية الألقاب كلها تقريبا لكن الماكينة الألمانية مضت تعمل بصمت وتؤودة دون ضجيج يذكر أنفقت خلالها أندية الدوري الوطني الثمانية عشرة في هذه الرحلة ما يقاربمبلغ 820 مليون يورو كان منها 80
مليون يورو أنفقت على إعداد الشباب في العام الفائت وحده ما دفع مدرب المنتخب الوطني
"جوغي لو" إلى التصريح أواخر العام الماضي: إننا نعدُّ أنفسنا كأبطال
للعالم.
بدأ ثمار الإعداد بالظهور فتصاعد الخط البياني للألمان سنة وراء أخرى ليصل ذروته في كأس العالم الحالية
وهنا لا بد أن نعلم أن الفريق الألماني استكمالاً لرحلة العالمية هذه بنى على
حسابه مجمع مكوث وتدريب فريقه في البرازيل ليتوافق مع باقي خطته.
مضت المباريات الأولى
سراعا حتى وصلت الماكينة الألمانية إلى موقعة البرازيل, تلك المباراة التي
كانت نموذجا لصراع الوصفتين:
وصفة اللاعب الساحر النجم
الأوحد في مقابل فريق النجوم.
يومها حدث أن النجم
الأوحد البرازيلي نيمار كان غائبا لإصابته في ظهره بينما غاب نجم دفاعه تياغو سيلفا لحصوله
على كرتين أصفرين.
لم يكن الألمان ليربحوا
بهذا النتيجة الصاعقة لولا خروج النجمين لكن بالمقابل لم وجودهما ليعطل عمل آلة
النجوم.
إن نتيجة مباراة البرازيل
وألمانية هي نتيجة طبيعية لما يمكن أن يحصل عندما تتلاقى مدرستان إحداهما على
أتم الاستعداد بينما الأخرى قد خسرت كل رأس مالها دفعة واحدة.
مباراة اليوم بين
الأرجنتين وألمانيا مختلفة عن مباراة البرازيل كون النجم الأوحد ميسي مازال على
رأس عمله. لذلك ستكون هذه المباراة معيارا دقيقا لمعركة الوصفتين.
لا يهمني من كل ما سبق
مباراة النهائي ولا من يفوز بكأسها, لكن ما يهمني هو الدرس الذي يجب أن نتعلمه نحن
العرب في هذا الزمن بالذات حين خرجنا نريد انتزاع حريتنا من جلادينا. الكل يعلم
أننا خرجنا دون إعداد حقيقي لهذا اليوم وحققنا رغم ذلك نتائج باهرة تجلت بالإطاحة
ببعض الرؤوس التي أهرمتنا خلال العقود الماضية. وبدلا من البدء بالعمل على تشكيل
فريق النجوم التفتنا نبحث عن النجم الأوحد الذي يقودنا في هذه المعركة. وغني عن
القول أن هذا النجم الأوحد لم يكن ليوجد في هذه الظروف وما سبقها.
وإذ لم نجد ذلك النجم
الهادي, ظهرت مؤخرا أصوات تقول بأن المهدي على وشك الظهور بل البعض يقسم أنه ظهر
لكنه يستعد للإعلان عن نفسه في واحدة من أسخف الحجج التي يسوقها المنهزم ليبرر
هزيمته.
هذا التبرير المبني على
ما خلاصته أننا أناس طيبون وجيدون, لذلك ورغم عدم أهليتنا لأي قيادة فإننا نستأهل
واسطة من الله اسمه المهدي ليعيدنا إلى القمة, وهو الأمر ذاته الذي كان العرب قد
ثاروا عليه قبل ثلاث سنوات أي نظام الواسطة التي يتوسط فيها القوي كي ينتزع غيرُ
صاحب الحقِّ الحقَّ من صاحبه.
إننا في وضع لا نحسد
عليه. بلادنا تتشظى والناس تقتل بل يذبح بعضهم بعضاً ورغم ذلك مازال فينا من يؤمن
أن النجم الأوحد هو طريق خلاصنا.
ليكن لنا في الألمان
عبرة. ولنبدأ من رياض الأطفال والأشبال ونستثمر فيها الجهد والمال.
إذا كان الألمان قد
أنفقوا خلال ثلاثة عشرة سنة 820 مليون يورو كي يصلوا للكأس, أليس حريا بنا أن
نستثمر ما يماثل ذلك لنصل للعالمية؟
لنعمل على بناء الفرد
ونسلحه بأدوات المعرفة التي يستطيع بها خوض غمار القرن الواحد والعشرين فدون تلك
المعارف لن نستطيع أن نتقدم قيد أنملة, فإن الجهل الذي يهدد باجتياح أجيال كاملة
من أمتنا سيكون شرطا كافيا وحده لمنع أي تقدم أو نهوض من كبوتنا. إذ يمكن أن تنهض
أمة فقيرة كما حدث في الهند ويمكن أن تنهض أمة يحكمها استبداد كما شاهدنا في
الصين, ويمكن أن تنهض أمة بعد ويلات حرب كما حصل لليابان, ويمكن أن تنهض أمة تجزأت
كما في ألمانيا, لكن كل هذه الأمم عملت على تعويض عوامل النقص هذه عبر الاستثمار
في المعرفة ليقينها أنه لا يمكن لأمة جاهلة أن تنهض لأن الجهل عامل كافٍ وحده
ليمنع كليّا أي نهوض محتمل.
ما يحتاجه شباب العرب اليوم هو التيقن أنه لا حلول سحرية أمامهم كذلك ليس هناك طرق مختصرة للوصول إلى الهدف المنشود, بل هناك واقع لا بد من معرفته ودراسته ووضع خطة
معرفية للتغلب عليه.
مثال بسيط أذكره من عالم كرة القدم يوضح كيف كانت أنظمة الاستبداد العربية تسعى للوصول إلى اللقب الذي تستر به عورتها أمام شعوبها بأي طريقة ومن هذه الطرق تزوير أعمار اللاعبين على جوازات سفرهم بغية إنقاصها كي يلعب الرجال في بطولات الشباب, والشباب في بطولات الناشئين وهكذا, كل تلك الطرق الملتوية بغية الكأس, ولو كان الأمر إلي لدفعت بالشباب ليلاعبوا الرجال, والناشئين ليواجهوا الشباب في طريق الإعداد الطويل.
من دون دراية الواقع والإعداد له بخطة معرفية سنبقى
نراوح مكاننا ونثير الغبار نظن أننا نقطع القوافي.
ختاماً أسأل الله أن لا تكون قافية
بيت الشاعر هي ما ينجلي عنه غبارنا حين يقول:
ستعلم
حين ينجلي الغبارُ ...... أفرسٌ تحتكَ أم حمار ُ